-A +A
أريج الجهني
«اعتمدت الدراسة المنهج الوصفي المسحي واتخذت الاستبانة أداة لها»، كل ما أطلبه منك عزيزي القارئ أن تنسخ هذا السطر في محرك البحث لترى بنفسك عدد الدراسات التي اتبعت هذه المنهجية في الدراسات الجامعية السعودية، وكأنه فرض عين على الطلبة أن تكون أبحاثهم كمية ووصفية، وكأن الأبحاث النوعية لا نعرفها ولا نحتاجها، هذا المقال رسالة للطلبة والأساتذة وصناع التعليم، منهجيات البحث لدينا بحاجة لوقفة أكاديمية جادة وغربلة كبرى.

لا يعقل أن لا تمر دراسة دون أن تقرأ هذا السطر، بل أصبحت لا أكمل قراءة البحث حينما أجد هذا الأمر، القصة ليست في عدم جدوى الأبحاث الكمية أو الوصفية، القصة كلها في هذا التحيز العلمي غير القائم على منهج نقدي ومحايد، المعرفة الإنسانية بالذات وبكل موضوعية لا يمكن أن تقاس فقط بهذه الأدوات التي مهما بلغت جودتها وتشكلت تظل قاصرة أمام الحاجة إلى «الإحساس» باللغة العلمية والإحساس الذي ينقله المبحوث أو عينة الدراسة لن يأتي بالأرقام بل يحتاج إلى «مقابلات وملاحظات ومعايشة»، طرحت سابقا مشكلتنا مع الأبحاث الأنثروبولجية (يمكن الرجوع إليها في أرشيف «عكاظ»)، وما زلت أنتظر أن تفيق الجامعات تحديدا الكليات الإنسانية لهذه المعضلة المعرفية التي جعلت الكثير من مشاكلنا لا تزال عالقة.


أليست الغاية الكبرى من الأبحاث إيجاد المشكلات البحثية ومعالجتها؟ أليست القيمة الحقيقية للتعليم العالي أن يكون «عاليا» بالفعل ومختلفا؟ هل أصبحت الدرجات العلمية مجرد وجاهة اجتماعية ومداخيل اقتصادية، لنرى هذا الخلل العلمي المجحف في حق تعليمنا؟، أعلم أن هناك مشكلات بحثية لا يناسبها سوى هذه المنهجيات التي أعتبرها منهجيات «رقمية وبرامج إحصائية»، ولا أقلل بالمناسبة من قيمتها المعرفية بل جميعها ضرورة، لكن ليس من المنطقي أن تفتح أكثر من 20 دراسة حول موضوع تربوي حساس مثل موضوع تمكين المرأة لتجد أن جل الدراسات تستنسخ بعضها البعض.

كيف يمكن لاستبانة قد يتم ملؤها إلكترونيا ودون أن يلتقي الباحث بالعينة أن تنقل المشاكل الحقيقية؟، كيف ترسخت هذه الأداة لتصبح الأساس في الأبحاث التربوية وكأن ما سواها تحصيل حاصل؟

رغم كل الجهود الجبارة والعظيمة التي تحدث في التعليم السعودي، تبقى بعض المشكلات البحثية التي ينقصها خلق جو أكاديمي محايد ومستقل، ويصنع دستورا مطورا لأخلاقيات البحث، بل لا يسمح للطالب أن يبدأ برسالته دون اجتياز عدة اختبارات منهجية، مع أهمية تمكينهم معرفيا خلال رحلة البحث، ولعل من أكبر وأعقد مشكلات البحوث والدراسات باللغة العربية حتى اللحظة عدم وجود برامج تقنية «كاشف السرقات الأدبية» مثل موقع «تيرنت إن» الشهير في بريطانيا، حيث لا يتم تسجيل الرسالة دون فحصها بالموقع وتحديد نسبة معينة للاجتياز.

منهجيات البحث العلمي هي المحرك الحقيقي الذي من خلاله نستطيع تقييم المنتجات المعرفية، بل هي التي تضع الدراسات والأفكار محط المعالجة والتوجيه، أستطيع أن أقول بأن غياب الأبحاث النوعية بشكل واضح عن القضايا التربوية يفسر واقعنا التعليمي، رغم ضبابية مستقبل الأبحاث التربوية، إلا أنه من الخطر السكوت عن هذا التحيز العلمي غير المدروس وغير المقبول في هذا الوقت بالتحديد لمعالجة البحوث، نحتاج المزيد من الأبحاث النوعية والتجريبية وغيرها، من المنهجيات التي تتصل بالعينة بشكل مباشر، ولنضع بالاعتبار أن الاتصال بالعينة بشكل مباشر أيضا يحمل مصاعب ومشاكل ثقافية، لكن هذه قضية أخرى سنطرحها لاحقا، وهي تدخل في إطار «الجهل المعرفي»، وأعني عندما لا يدرك المبحوث أن استجابته للدراسة قضية مصيرية وضرورة أخلاقية وليست مجاملة للباحث!

حتى حين أقول للطلبة والباحثين، لا تكن منصاعا تماما لتوجهات مشرفك الأكاديمي، ناقش ودافع عن فكرتك، لا تكرر ولا تستنسخ، كن باحثا ذا قيمة اعتبارية وصانع معرفة، الفكرة البحثية ومعالجة المشكلات لن تحدث من خلال قوقل! ولن تحدث من خلال الأرقام، مشكلات التعليم بالذات تحتاج أن تنطلق من داخل الميدان لا من خارجه، تمسك جيدا بالنظريات التربوية والأسس المعرفية، ومهما كانت صعوبة الطريق، اجعل لك بصمة معرفية، رحلة المعرفة هي أرقى وأسمى رحلة، عندما تنتهي اجعل منتجك المعرفي علامة في المجال، كونوا في أبحاثكم باذخين.

* كاتبة سعودية