-A +A
أحمد عجب
على الرغم من كثرة البرامج التلفزيونية الحوارية، وعلى الرغم من اختلاف مسمياتها وتنوع القنوات الناقلة لها، إلا أنها تظل متطابقة وأشبه ما تكون بقروبات الواتساب العشوائية التي تحمل نفس الصور والمقاطع (نسخ، لصق)، جميعها تبحث عن الشخصية المثيرة على حساب الموهبة الفذة أو القدوة الحسنة، تقلب أوراق الذكريات السيئة، وتلقي الضوء على الجوانب المظلمة والأفكار المضللة، وتدفعك دفعاً بهذه الإثارة الغبية وغير المحسوبة لتتساءل بحرقـة: كيف نجحت هذه الشخصية وكيف وصلت لهذا المستوى؟!

أول صورة تتبادر لذهني عند إعلان القناة تخطي عدد مشاهدات الحلقة المليون، هو ذلك الشاب العاطل الذي يمثل شريحة كبيرة بمجتمعنا، والذي أفاق للتو من نومته طوال النهار، ليجلس كسولاً متململاً ومتنقلاً بالريموت بين القنوات، حتى تقع عينه على تلك الشخصية التي يتابعها بتويتر ويسمع عن قضاياها الشائكة التي تورطت فيها، ليعدل من جلسته، ويرفع الصوت، وينصت بكل حواسه!


هذه البرامج لا تخرج في الغالب عن الصورة النمطية، المذيع: حدثنا عن طفولتك بالحي والبيت والمدرسة؟. الضيف: يطلق ضحكة عالية ثم يهز رأسه ويقول: لقد عشت طفولة قاسية، لم يكن لي أصدقاء، كنت الأقل رعاية بين إخواني، وأكثر واحد مشاغب بالفصل!، المذيع: ما هو أصعب موقف مررت به؟. وهنا لا أدري لماذا يبكي الضيف وهو يسرد حكاية تعود أحداثها لعشرات السنين؟ بعدها يتنحنح المذيع ثم يصب الزيت على الحوار: حدثنا عن فترة اعتقالك لارتباطك بتلك الفئة؟. الضيف: كانت فترة صعبة للغاية تعلمت منها وخرجت بنظرة مغايرة ودعم تشجيعي. هنا تتوجه الكاميرا للمذيع وهو يقدم جلسته على الكنبة مظهراً اهتمامه: وكيف استطعت بعدها بناء هذا الأسطول من الثروة؟. الضيف: أنا رجل عصامي وأعرف كيف أقتنص الفرص وأجيرها لصالحي!

الصورة الأخيرة التي تتبادر لذهني، تلك الأم المكلومة وهي تحمل صينية الفطور وتدق باب غرفة ابنها السابعة صباحاً منادية باسمه، ومع أنها تسمع صوت التلفزيون إلا أنه لا يرد عليها، تدخل الغرفة ولا تجده، لا على فراشه، ولا بالحمام، ولا حتى في البلكونة التي اعتاد أن يتطلع لأحلامه من خلالها، تتنبه الأم لاختفاء شنطته، وقد وضع جانباً شهادة البكالوريوس وجواله الثاني، بحث إخوانه وأصدقاؤه في كل المستشفيات ومراكز المرور والجوازات وشيكوا على حجوزات الطيران، لكنهم لم يجدوا له أثراً، فطن أحدهم إلى أنه لم يتبق سوى مكان واحد لم يسألوا فيه، بعدها بأسابيع يرن جوال أخيه: ألو.. أنت وينك.. ومن الحاقد اللي غرر بك، ومتى قالولك بتطلع؟