-A +A
رامي الخليفة العلي
في الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة السورية تنكمش الثورة والأحداث الجسام التي شهدها هذا البلد المنكوب إلى مجرد خلاف حول اللجنة الدستورية، وكأن من خرج اعتراضا على النظام السوري وسطوته الأمنية وسياسته الطائفية كان يريد تغييرا في المواد الدستورية، وكأن الأزمة كانت أزمة نصوص! مع أن الجميع يدرك أن الدستور السوري كان ولا يزال لا يساوي الحبر الذي كتب به. ولم ينزل في يوم منزل التطبيق. بالمناسبة نظريا الدستور لم يكن بذلك السوء الذي قد يتوقعه المرء، فقد كان ينص على الحريات العامة وحقوق المواطنة وكل تلك القيم التي لم تغادر دفتيه. نظام البعث قبل وصول الأسد الأب وبعدما سيطر على الحكم لم يكن يعبأ بالدستور ولم يكن يقيم له وزنا. ولعل من أسباب ثورة السوريين هو استعادة دولة القانون بحيث يصبح للدستور والقانون قيمة باعتبارهما العقد الاجتماعي الذي يربط النظام بالشعب، ولكن ما ربط الشعب السوري بنظامه السياسي كان السطوة الأمنية التي جعلت من حياته جحيما من الخوف والرعب.

عندما استلم المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا مهامه بدأ بنقاش مسألة الدستور. والحقيقة أن المعارضة والمراقبين وحتى النظام لم يأخذوا خطة السيد دي ميستورا على محمل الجد. النظام وجد أن إستراتيجية المبعوث الخاص تمنحه الغطاء السياسي والوقت الكافي لاستعادة السيطرة العسكرية ومحاصرة المعارضة وخصوصا بعد الدخول الروسي العسكري على خط الأزمة. في المقابل المعارضة وجدت في خطة السيد دي ميستورا وضعا للعربة قبل الحصان، ولكنها كانت مجبرة على المضي قدما في تلك الخطة بسبب الضغط الدولي الهائل الذي مورس عليها. ومع ذلك هذه الإستراتيجية لم تجد طريقها إلى النجاح فقد غادر دي ميستورا منصبه وجاء مبعوث جديد وبقيت فكرة الاتفاق على دستور مطمح بعيد المنال. ولكن خلال تلك السنوات جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فقد تغير الوضع الميداني العسكري وأصبحت اليد العليا العسكرية لصالح النظام وحلفائه من الميليشيات الإيرانية وتراجعت المعارضة السورية إلى مجرد جيب صغير في شمال غرب البلاد تسيطر عليه تركيا. خلال تلك السنوات تشتتت المعارضة وانفض شملها، في مقابل سيطرة روسية وإيرانية تكاد تكون مطلقة على القرار السياسي والعسكري والأمني في دمشق.


لعل التغير الأهم الذي طرأ على المشهد السوري وخصوصا الحل السياسي هو اضمحلال وتلاشي منصة جنيف بعد الفشل المتلاحق لمؤتمراتها، في مقابل ظهور منصة بديلة وهي منصة استانة، واحتكار روسيا وإيران وتركيا الحل في الأزمة السورية، بعد تراجع الغرب الولايات المتحدة وأوروبا واهتمامهما بمحاربة الإرهاب وقضية اللاجئين. هذا الواقع أغرى الجانب الروسي بمحاولة إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية من خلال فرض الاستسلام على المعارضة السورية عبر مؤتمر سوتشي للمعارضة السورية، وهنا تظهر الإرادة الغربية مرة أخرى والتي رفضت الحل بالمقاييس الروسية، وأفشلت هذا المسعى. الرسالة الغربية كانت واضحة لموسكو بأنها لا تستطيع أن تنجز الحل وفقا لمقاييسها وإنما الأمر بحاجة إلى توافق إقليمي ودولي. وهذا ما تعذر حتى الآن.

في إطار هذا الصخب الروسي والخلاف بين موسكو والغرب، جرى التوافق بين الدول الضامنة لاتفاقات أستانة على خطة لرسم الحل السياسي ترتكز على كتابة دستور جديد للبلاد، وتقوم لجنة مكونة من 150 شخصية بهذه المهمة، هذه اللجنة تختار المعارضة 50 من أعضائها و50 يختارهم النظام و50 يتم اختيارهم من قبل المجتمع المدنى. وهنا نشأت تفاصيل كثيرة استفز من خلالها النظام كل الشياطين لكي يمنع الوصول إلى تشكيل لهذه اللجنة. روسيا لم تستطع أن تنجز لجنة على قياسها والغرب تدخل أكثر من مرة لإفشال أي محاولة لقيام موسكو بذلك، تركيا جعلت هذه القضية على طاولة المساومات على أساس أن تحصل على حماية مصالحها بغض النظر عن المعارضة السورية.

سر لجنة كتابة الدستور ليس في أهمية الدستور وليس في كونه سيكون حلا للأزمة السورية، وإنما باعتبارها تعبيرا عن التوازنات الدولية والإقليمية في الأزمة السورية، بحيث أصبحت تلك اللجنة العتيدة هي المقياس الذي يحدد مدى تأثير هذا الطرف أو ذاك في الملف برمته. الاقتراح الفرنسي الذي طرحته باريس على موسكو أن يتم إلغاء فكرة كتابة دستور جديد والقيام فقط بتعديلات لمواد الدستور الحالي تتناول صلاحيات الرئيس وعلاقته بالمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، إذا ما أخذنا هذا الموقف الفرنسي بعين الاعتبار يمكن أن نستنتج أن التوافق الإقليمي والدولي في إطار اللجنة الدستورية أصبح بعيد المنال. النظام السوري وافق على المقترح الفرنسي ولكنه اشترط أن تتم الانتخابات التي تعقب التعديلات في المناطق التي يسيطر عليها وحسب، وبالتالي نعود إلى المربع الأول ويعود السؤال هل نحن أمام حل سياسي شكلي يكرس الواقع أم أن المجتمع الدولي سوف يفرض تسوية تؤدي إلى عملية انتقال سياسي حقيقية؟ يبقى هذا السؤال في رسم توازنات إقليمية ودولية وتطورات هي أسرع بكثير مما قد نتخيل.

* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط

ramialkhalife@