-A +A
محمد مفتي
اتسمت السياسة الاقتصادية في المملكة، ولا سيما سياسة الواردات التجارية على مر تاريخها بالانفتاح والمرونة، ولهذا تمكنت المملكة بنجاح من انتهاج نهج متوازن بصورة عامة مع جميع الدول في كافة قارات العالم، وفي ثمانينات القرن الماضي كانت الكثير من الواردات التجارية للمملكة تحمل شعار صنع في هونج كونج أو صنع في تايوان، وأذكر أنني قمت في تلك الآونة بزيارة لهونج كونج عندما كانت لا تزال تحت الوصاية البريطانية، كما قمت أيضاً بزيارة تايبيه عاصمة تايوان، وقد انبهرت وقتذاك كثيراً بالمعالم الحضارية المميزة لكل منهما، فقد لمست بوضوح مدى التقدم الصناعي الذي غدا يميزهما.

أما الصين بطفراتها الصناعية اللافتة فلم تغب أبداً عن الحسابات السعودية، إدراكاً من الدولة لمدى أهمية ومكانة هذا البلد العملاق، ووعياً بالمكانة المستقبلية التي سوف يتبوأها عما قريب، ورغبة في تنويع مصادر الاستيراد وعدم قصرها على المنتجات العربية أو الأوروبية أو الأمريكية فحسب، وفي واقع الأمر تميزت العلاقات بين المملكة وبين المارد الصيني طوال الوقت بكونها علاقات استراتيجية، حتى قبل عودة العلاقات الدبلوماسية رسمياً عقب حرب الخليج الثانية، فقد قامت المملكة في منتصف ثمانينات القرن الماضي بشراء صواريخ إستراتيجية بعيدة المدى من الصين، وسط ترحيب مشترك بين البلدين، ووسط تنبؤات صينية بمستقبل المملكة الاقتصادي.


نمت الصين خلال عقود نمواً هائلاً وحققت ما يمكن أن نطلق عليه المعجزة الصينية، ونمت معها علاقاتها الاقتصادية القوية بغالبية دول العالم؛ حيث لا توجد مدينة أو حتى قرية في هذا العالم تخلو من المنتجات الصينية، وقد كانت المملكة واحدة من تلك الدول التي ارتبطت بعلاقة وطيدة بالصين، ومن أبرز معالم العلاقات القوية بينهما تدشين الخطوط الجوية السعودية قبل بضع سنوات خطاً جوياً مباشراً من جدة والرياض إلى مدينة جوانزو، وقد قمت بزيارة الصين عدة مرات خلال السنوات القليلة الماضية لزيارة المعرض الشهير «كانتون»، وقد لمست بنفسي الزيادة المطردة في عدد رجال الأعمال السعوديين -ممن يعدون من أقطاب التجارة في المملكة- بهذا المعرض الدولي.

وعلى الرغم من كون الصين باتت وجهة عالمية يقصدها المسافرون من جميع أنحاء العالم، إلا أنني لاحظت أن غالبية الصينيين لا يتحدثون إلا الصينية، وربما ليس لديهم أساساً الرغبة في تعلم اللغات الأخرى، وكنت أضطر خلال زياراتي المتكررة للصين لاستخدام خدمات جوجل للترجمة لأتمكن من التعامل مع بعض الصينيين، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو أن الصينيين لا يذهبون كثيراً للسياحة خارج بلادهم، ولهذا لا يجدون أهمية كبيرة في تعلم أي لغة أخرى، وهو الأمر الذي يختلف كثيراً عن المملكة؛ حيث تعتبر السياحة الخارجية مثار اهتمام الكثير من المواطنين، ومن هنا فإن فكرة إدراج اللغة الصينية في المناهج الدراسية تعد فكرة واعدة بالفعل، فاللغة الصينية أضحت واحدة من أهم اللغات طلباً للتعلم في العالم كله، وفي الولايات المتحدة وأوروبا يتزايد بشكل واضح عدد المنخرطين في تعلمها عاماً بعد عام.

من المؤكد أن الاهتمام بتدريس العديد من اللغات ودمجها في المنظومة التعليمية في أي دولة مؤشر على عدة أمور، أولها أنه انعكاس لانفتاحها وتنوعها وقبولها للتعددات الثقافية، ثانيها أن الانفتاح اللغوي يعد ظهيراً ثقافياً لسياسة الدولة الإستراتيجية، والتي تسعى بكل جهد لتنويع مصادر دعمها السياسي بنفس القدر الذي تسعى من خلاله لتنويع مصادر دخلها الاقتصادي، فالعالم لم يعد مستقطباً بنفس القدر الذي كان يتميز به خلال العقود الأخيرة الماضية، فقد أصبحت مراكز القوى العالمية متعددة في نفس الوقت الذي اندثر فيه الكثير منها، ولم يعد هناك عالم أوحد تحكمه قوة أو قوتان فحسب، وها هو ذا التنين الصيني العملاق يظهر بوضوح في الساحة الدولية ويفرض نفسه عليها، وفي اعتقادي أن توطيد العلاقة معه وتعميقها على الصعيد الاستراتيجي والاقتصادي بل واللغوي أيضاً يعكس فطنة في علم الإدارة واستشرافا حكيما للمستقبل، كما يعكس رؤية طموح تسعى لربط المملكة بجميع القوى الدولية على الساحة على نحو متوازن وشامل ومتكامل، وبما يحقق مصلحة جميع الأطراف وأولهم مصلحة الشعب السعودي.

* كاتب سعودي