-A +A
طلال صالح بنان
عندما تمتلك الدولة كل شيء، ولا تترك للفرد أي شيء، تفْقرُ الدولة.. ويضربُ العوز الناس، حتى ولو كانت الدولة تملك من الموارد ما لا يمكن إحصاؤه والإحاطة به. وعندما يحتكر النظام السياسي ثروة البلاد.. ويسيطر على أدوات الإنتاج، بحجة إعادة توزيع الثروة بين الناس، فإن الأمر في نهاية المطاف ينتهي بحكم «ديكتاتوري» مستبد، يهدم النظرية الاشتراكية من أساسها السياسي والأخلاقي.

تلك هي أزمة فنزويلا هذه الأيام، التي تعصف بمصير سكانها البالغ عددهم 25 مليون نسمة.. ويقبع باطن أرضها أكبر احتياطي للنفط العالمي.. وتتنوع بها موارد الطبيعة غنى ووفرةً، بما لا يتوافر بكثيرٍ من دول العالم. إنها أزمة دولة ربط نظامها السياسي مصير شعبه بسلعة تصديرية وَاحِدَة، وفرض وصاية أبوية قسرية على مواطنيه، تنعدم فيها أية فرصة حقيقية لتسفر المبادرة الفردية عن إبداعاتها الخلاقة المتجددة.


مشكلة فنزويلا الحقيقية أن نظامها السياسي اختار بداية الألفية الجديدة الاشتراكية، وشمس الأخيرة في أفول. وإن كان نظام فنزويلا السياسي استند إلى شرعية شعبية ومؤسساتية، تأخذ بالتعددية السياسية، غير ذلك السائد في كوبا، مثلاً، إلا أنه كان يرزح تحت عقدة طبقية مقيتة، تغذيها فوارق اجتماعية عميقة، أوصلت فنزويلا إلى ما هي عليه اليوم من تردٍّ في أوضاعها السياسية والاقتصادية.

واجهت روسيا ودول أوروبا الشرقية والصين، هذه المشكلة الاقتصادية والسياسية المزدوجة، التي نشأت بانهيار النظرية والممارسة الاشتراكية. ساعد على سلاسة ومرونة التأقلم، ولا نقول التحول، في مجتمعات المشرق تلك، رشد وعقلانية نخبها الحاكمة، التي وإن تخلت عن منطلقات شرعيتها الأيدلوجية التقليدية، إلا أنها ظلت متمسكة بامتيازاتها ومكانتها السياسية المرموقة.

في روسيا ودول أوروبا الشرقية، اسْتُبْدِلَ عِنْدُ الأيدلوجية المتطرف، بعقلانية القومية الواعد. تخلت موسكو عن مفهوم وشعار الأممية المُكْلِف، إلى مفهوم وشعار الوطنية التليد والأكثر إبهاراً. في موسكو: احتفظت «كوادر» الحزب الشيوعي السابق بنفوذها ومكانتها، بعد أن نجحت بتأسيس شرعية سياسية جديدة، على أسس شبه ديمقراطية، مع ميل مُلفت للخيار الرأسمالي، اقتصادياً.

الصين: مع الإبقاء على نفوذ بل وجبروت الحزب الشيوعي سياسياً، إلا أنها اقتصادياً، لم يعنها لون «القط» إن كان أبيض أم أسود... المهم: قدرته على اصطياد الفئران!؟ اختارت بكين تطبيق الليبرالية الرأسمالية بقسوة تطرفها، في ظل قبضة سياسية وأمنية محكمة للحزب الشيوعي. المحصلة: نجحت الصين خلال 3 عقود من بناء أكثر اقتصاديات العالم نمواً في ظل أعلى كثافة سكانية في العالم.. وموارد اقتصادية شديدة الحرج والمحدودية، خاصةً: في عنصر الطاقة.

في ظل هذا الانحسار الأممي للاشتراكية، على مستوى عتاة مجتمعات الممارسة الاشتراكية في نسختها الأيدلوجية الماركسية، في الشرق، نجد أغنى دولة نفطية في العالم، تختار الاشتراكية وتتمسك بخلفيتها الأيدلوجية، سبيلاً للتنمية الاقتصادية، في ظل ممارسة ديمقراطية شعبوية، تتقلص فيها فرص التعددية السياسية الحقيقية. في فنزويلا يأتي توقو شافييز (1954-2013)، من خلفية عسكرية، ذات جذور طبقية مشحونة بعقد الفقر والاضطهاد، مبشراً بسطوع نجم الاشتراكية من جديد.

جاء شافييز لحكم فنزويلا (1999)، في ذروة حقبة النفط، حيث وفرة المداخيل «الدولارية» النفطية. مشكلة شافييز، وكذا مشكلة جميع دول العالم التي يقوم اقتصادها على تصدير سلعة واحدة لا تدعمها صناعة تحويلية متقدمة، تكمن في جعل اقتصاد البلاد تحت رحمة السوق العالمية لتلك السلعة. ساعدت عائدات النفط في السنوات العشر الأولى من حكم شافييز، على إحداث تنمية اقتصادية مصطنعة في البلاد عمادها الأساسي عائدات النفط، وليس قدرة إنتاجية حقيقية للاقتصاد الفنزويلي... الأمر الذ أدى إلى انتكاسة حقيقية بحلول الأزمة المالية العالمية 2008، حيث تهاوت أسعار النفط من قرابة 140 دولارا للبرميل، إلى ما يقل عن 30 دولارا في غضون 7 سنوات فقط.

صَاحَبَ هذا الانهيار في أسعار النفط، انخفاض في إنتاج فنزويلا من النفط إلى الربع تقريباً، بسبب تدهور صناعة إنتاج النفط نتيجة امتلاك الدولة للثروة النفطية واستبدال «الكوادر» الفنية المتخصصة في صناعة النفط بـ«كوادر» سياسية غير متخصصة. كما زاد من تفاقم الأزمة، لجوء الدولة لخيار طبع أوراق النقد المحلية (البوليفار)، حتى فقدت فعلياً قيمة الورق الذي طُبِعَ بها. النتيجة: معدلات تضخم هي الأعلى في تاريخ اقتصاديات العالم. وزاد الأمر سوءاً، أن عائدات النفط الشحيحة لم تعد تكفي النخبة الحاكمة لفرض سيطرتها على البلاد، مما ألجأها للتورط في تجارة «نقدية» غير مشروعة، ذهبت بما تبقى من شرعية سياسية للنخبة الحاكمة.. وأضرت بسمعتها عالمياً.

فنزويلا، هذه الأيام على شفا حرب أهلية، موشكة على تدخل أجنبي، بحجة إنقاذ شعب فنزويلا من الجوع، لإحداث تغيير جذري في تركيبة النخبة الحاكمة، بدعم البرلمان في مواجهة الرئاسة، لصالح قوى رأسمالية أجنبية عينها على نفط فنزويلا وثروتها، لا على مأساة شعبها وبؤسِهِ.

الاشتراكية، بنسختها الأيدلوجية المتطرفة.. وخلفيتها الطبقية الحاقدة، لم تعد خياراً لتنمية المجتمعات الحديثة.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com