-A +A
نجيب يماني
تتراحب أمام المملكة العربية السعودية براحات المستقبل الفسيح المشرق، بالنظر إلى الآفاق البعيدة التي ترمي إليها قيادتنا الرشيدة، والتي عبّرت عنها رؤية المملكة 2030 أصدق تعبير، بوعدها الطموح، ونظرتها الثاقبة، وقراءتها البصيرة للمعطيات المحلية، والواقع الإقليمي، والمتغيرات العالمية، ليأتي تحرّك المملكة في هذا السياق منسجما مع أهدافها، ومتسقا مع رؤيتها، ومتوائما مع تطلعاتها.

من هذه الزاوية يمكننا النظر وقراءة الجولة الآسيوية التي قام بها ولي العهد الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير محمّد بن سلمان، وشملت باكستان والهند والصين، فهذه الجولة الميمونة استطاعت أن تحقق أهدافها بأنجح ما يكون التحقيق، سواء على المستوى الاقتصادي، أو السياسي، أو الاجتماعي.. وهي حقول غير منفصلة عن بعضها، وليست جزرا معزولة..


ولو أجملنا القول؛ تقديرا للمساحة المتاحة هنا، فتكفينا الإشارة حينئذٍ إلى عدد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي أبرمت بين المملكة العربية السعودية وأشقائها في باكستان والهند والصين، والميزانيات التي خصصت لإنفاذ هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، غير أن العنصر اللافت في هذه الاتفاقيات الموقعة، ليس في عددها فقط، ولكن في نوعيتها، والمجالات الحيوية التي تستهدفها، ومن ذلك مجالات الطاقة المتجددة، بوصفها عنصر التركيز الأكثر بروزا عالميا، في سعيه نحو طاقات بديلة تكون أكثر صداقة مع البيئة، وهو ما ينسجم مع توجه المملكة أيضا نحو الافتكاك من الارتهان للنفط بوصفه المرتكز الأساسي لاقتصادنا، وفق ما أسست له وتطمح إلى تحقيقه رؤية المملكة 2030، فهذه الاتفاقيات التي وقعت مع البلدان الثلاثة كفيلة بإحداث التغيير المنشود، والوصول إلى الغاية المرتجاة، قياسا على تطورها في هذا المجال، وسبقها المعروف في ذلك.. والحال كذلك مع بقية المجالات الأخرى التي شملتها مذكرات التفاهم والاتفاقيات، وهي في إجمالها ستخلق واقعا اقتصاديا جديدا على المستويين المحلي والإقليمي، بما ينعكس بالضرورة على المستوى العالمي، وستكون الساحة السعودية مسرحا لحراك اقتصادي متنامٍ ومتحرك ومنتج، متخلصا في ذلك من مربع الاستهلاك، والاقتصاد الراكد، علاوة على الكم الكبير من الوظائف والمجالات التي ستنفسح أمام العقول السعودية والشباب الطامح الوثاب في هذا البلد المعطاء.

ومن بوابة التعاون الاقتصادي يأخذ البعد السياسي وضعه المتميز، بما يشج العلاقة بين المملكة وهذه البلدان الثلاثة، وغيرها من البلدان الصديقة، بأواصر المحبة وترجيح المصالح والمنافع المشتركة، بما يضمن وضعا إقليميا قادرا على مجابهة التحديات الكبيرة، بخاصة وأن الاتفاقيات الموقعة شملت محاربة الإرهاب والتطرف، وتأمين الحدود، وتسهيل حركة الملاحة وتأمينها بما يضمن عدم تعرضها لأي مخاطر من أي طرف كان، بما يؤسس حالة دفاع مشترك بينها، وفي ذلك رسالة واضحة وصريحة لنظام الملالي في إيران، كونه النظام المثير للقلاقل في المنطقة، والسعي نحو توسيع نطاق نفوذه العسكري وطموحه العقدي، متخذا له في سبيل ذلك «جيوبا» في بعض دول الجوار، رهنت نفسها وقرارها للطموح الفارسي، بما استوجب فعلاً مضادا حاسما وباترا يوقف هذا العبث عند حده، وليست هذه الجولة المباركة إلا جهدا في هذا المسعى، ورسالة قوية الوقع، لا شك أن صداها قد صاخت له أذن «طهران»، وعرفت بعده، وخبرت غايته جيدا.

إن الأبعاد الاجتماعية والثقافية كانت حاضرة في هذه الجولة، بما يعمق من أواصر العلاقة الضاربة في الجذور بين المملكة وهذه البلدان الثلاثة، فالمشترك الثقافي والاجتماعي ينبسط على قاعدة عريضة، تحتاج فقط إلى مأسسة وترتيب بحيث تكون رسالتها أكثر شمولا، وأقوى تأثيرا، وهو ما سعت إليه مذكرات التفاهم والاتفاقيات بتأكيدها على ضرورة تنظيم الأيام الثقافية، بكل ما تحمله من فنون وآداب وحضارات متعددة، بما يضمن نوعا من التلاقح بينها وبين شعب المملكة العربية السعودية، يزيد من أواصر القربى والتلاقي، ويفتح النوافذ نحو فهم مشترك، بخاصة أن المملكة شرفت باحتضان الحرمين الشريفين، قبلة المسلمين في كل بقاع الأرض، وهي ميزة تجعل من أمر التلاقح الثقافي والتقارب الحضاري متاحا وميسورا، ولا ينقصه إلا البعد المؤسسي فقط.

غاية القول، إن هذه الجولة التي قام بها ولي العهد الأمين، «محمد الخير» تمثّل مرتكزا مهما لعلاقات قديمة، ولكنها متجددة وفق المعطيات الآنية، والمتغيرات العالمية، قد استطاعت هذه الجولة أن تدير نظر العالم باتجاه «الشرق»، وتجعل المملكة جسرا واصلاً مع الغرب، بالنظر إلى الجولة الغربية التي قام بها ولي العهد قبل هذه الجولة، وبهذا تصبح المملكة قطب الرحى، ومركز الدائرة، بما يتيح لها القدرة على تقريب المسافات، وإحداث حالات التوازن المطلوبة في عالم بات منشغلاً بالتجاذبات الحادة، والتي يوشك بعضها على الانفجار، وفي ذلك أشير إلى الدور الكبير الذي لعبته هذه الجولة في التمهيد لتقريب وجهات النظر بين الهند وباكستان، بما يسمح لاحقا بنزع فتيل التوتر بينهما والذي يوشك على الاشتعال، وفي هذا ما يشير إلى المكانة السياسية الكبيرة التي تتمتع بها المملكة وقيادتها الحكيمة، في سعيها نحو لعب دور إيجابي في محيطها الإقليمي، ينسجم مع مكانتها ماضيا وحاضرا ومستقبلاً.

* كاتب سعودي