خلف المشعان
خلف المشعان




لوحة للفنان علي المعمار.
لوحة للفنان علي المعمار.
-A +A
قراءة: علي الرباعي
للشعر صوت داخلي تفوق طاقته ما يفوه به الشاعر، خصوصاً عندما نستشعر أن ذلك الصوت سكن أعماقنا، وبلغنا حيثما كنا حتى نظن من فرط إعجابنا به أننا نحن قائلوه، ولعل الشاعر خلف المشعان من شعراء قلة يقتنصون المثل والحكمة ويوظفونها توظيفاً فاتناً لتتحول المعاناة الإنسانية الفردية إلى مآذن تضج بالشكوى وتضجر ممن يريدها أن تحتمل فوق طاقتها، وإذا كانت البيئات تهب ساكنيها بعضاً من طبيعتها إلا أنه للصبر حدوداً كما يقال، والمشعان يعزز من جهة مثلنا الذائع (خلك شمالي)، ومن جهة ثانية يذهب إلى أن حتى صدور الشماليين يمكن أن تتغير بحكم أن بعض المتطفلين والفضوليين لا يحتمل صفاقته الشمال بكل رحابته (يقولون العرب صدر الشمالي ما يضيق بساع، وأنا أقول الصدور اليوم ما عادت شماليه).

وبكل كبرياء شاعر شمالي يحاول الحفاظ على رباطة جأشه، ومداراة ألمه، إلا أن تطاول سفيه أو جاهل يدع الحليم حيرانا، وتشتعل في وجدانه حرقة، يدخل بها في حالة صراع داخلي بين بحثه عن متنفس لهذا الاحتقان النفسي، وبين ضبط المشاعر وتجاوز الخطأ وكأنه لم يحدث، وكأني بالشاعر في مخاض عسير بين مثالية لن يدّعيها وموضوعية تقتضي معالجة فورية والرد بالمثل (بدت في داخلي ضيقه عجزت ألقى لها مطلاع، تغيب وترجع، وترجع تغيب ومالها نيّه، عمتني كلمة جتني، وضقت وضاق صـدر القاع، ألا يا الله لا تجزى غشيم قالها فيّه).


وبما أن تجاوز الحمقى والسفهاء يخرج الإنسان عن طوره، فمن طبائع الأمور أن تكون ردود الأفعال ساخنة بل وتخرج أحياناً عن سياق النص، (نهيته قبل هالمره يخلي سيرتي مــــا طاع، ألا يا لعنبو جــد القصيد.. ولعنبو بيّه، ضعيف النفس (غزلنجي) يشوف بعينه الاطـباع، يحسب اني مثل ربعه يسوق بضاعته لـيّه).

وكعادة شعراء العرب في عقد مقارنات بين المذموم ضعيف النفس وبين الذات الشاعرة التي لا تقبل المقارنة إلا أنها تضع حدوداً فاصلة بين هجّاء القفا وبين الصريح بمواجهته ووجهة نظره (انا اشري لا بغيت اشري ولاني مساوم البياع، الى من قال لي ميّه عطيته فوقها ميّه، وانا اكتب لجل من يقرا ولا ارجي من يقول ابداع، وابـد لا تحسـبٍ ردك يشكـل لي أهمـيـه، ترى ياهيه لامني نويتك بس اطق اصـباع، ويجيني الف شيطان و وراهم ألف جنيّه).

ويتطور البناء السردي للنص لتخرج المحاورة من العراك اللفظي إلى صورة حركية (أجرّك من طرف حرفك وارد الصـاع ميّة صاع، جنون القاف ارقّصها على راسك هجائيه، يا ويلك لو توليتك وربي مالك الشــفاع، يجيك من القصيد احسب.. ثلاثميه ثلاثميه).

ولكن شاعرنا يستدرك في نهاية الأمر، ويحذر خصمه من التعرض له، لأنه سيلاقي من الهجاء ما يحجر به عليه، ويمنعه من لقاء الناس، كون الشعر وسيلة دعائية للتشهير بالسقط والمتطاولين على أعراض ما يعلمون أنهم أعلى منهم قيمة ومقاما، لتعود القصيدة لتأكيد المؤكد، وتختار أن تنتهي برسالة تحذيرية (ولكن خلّك بحالك ما دام أن الصدور وسـاع، ترى للحين ما ضاقت وما زالت شماليه).