-A +A
محمد مفتي
بعد عقود طويلة لما يمكن أن نطلق عليه الاحتكار الاجتماعي والثقافي من قلة محدودة، سعت بكل ما أوتيت من قوة للسيطرة على المجتمع والتحكم في اتجاهه الفكري والحضاري، والاحتفاظ به في حالة جمود لا تراعي متغيرات العصر الحديثة ولا تطوراته، بدأ المجتمع السعودي مؤخراً يتعافى ويعود تدريجياً للحياة الطبيعية المفترضة، والمتماشية مع التطور المدني الذي تعيشه جميع دول العالم من شرقه إلى غربه، دون أن يستشري الفساد في جنبات المجتمع كما يشيع ويحذر أصحاب الفكر المتحجر.

لسنوات طويلة مضت لم يعرف المواطن السعودي مفهوم الترفيه الراقي ولم يعايش ثقافة الانفتاح الحضاري إلا عند سفره خارج المملكة، وإنفاقه لمبالغ طائلة في أوجه ترفيهية كانت تفتقدها المملكة بدون أي مبرر، ولقد عانى المواطن العادي الحرمان من التمتع بالكثير من الأنشطة المشروعة، والتي كانت ستخفف لا محالة من روتين الحياة اليومي المتشبع بالملل والتكرار، ومن ناحية أخرى كانت ضغوط الحياة تثقل كاهل الموظف العادي الذي يقع عليه عبء تحمل مسؤولية إعانة ورعاية أسرته بمفرده، وذلك بسبب عدم مشاركة المرأة السعودية في مجال العمل، عدا القليل من الوظائف المحددة كماً وكيفاً من التي كان يُسمح للنساء بشغلها، وهو ما لا يتماشى أو يواكب العدد الكبير من خريجات الجامعات، واللاتي ينتهي بهن الأمر في غالبية الأحوال للمكوث في المنزل، وحرمان سوق العمل السعودي مما يقرب من نصف طاقته التشغيلية.


وبسبب حرمان المرأة من المشاركة في الحياة العامة ومحاولة تقييدها كانت رواتب الكثير من الأسر السعودية تنفق على نحو غير عادل على أمور عديدة غير مبررة وأهمها رواتب السائقين، فكانت الضغوط تتزايد من كل الاتجاهات، ولهذا كانت الكثير من الأسر تنتظر بفارغ الصبر فترة الإجازات الصيفية للتخلص من تلك الضغوط والأعباء للسفر للخارج للسياحة، ولم تكن الأنشطة السياحية التي تمارسها تلك الأسر خارج المملكة سوى حضور حفلات السينما والمسرح، أو التسوق والتعرف على ثقافات وطبائع المجتمعات الأخرى، وذلك بسبب الافتقار لثقافة السياحة في المملكة، والتي سعت الدولة مؤخراً جاهدة لإنعاشها وإعادة الروح إليها.

كانت الكثير من الأمور المتعلقة بالمرأة السعودية كقيادة السيارات والسماح لهن بدخول الملاعب الرياضية إضافة إلى ثقافة الترفيه والسياحة الداخلية من الأمور غير القابلة للنقاش، بدعوى درء الشبهات والحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع وحماية قيمه وأخلاقياته، لذلك كان الأمر بحاجة ماسة لدماء جديدة وقيادة شابة وإدارة حاسمة لتغيير هذا الوضع المتعنت غير الطبيعي، ولم يكن سوى الأمير الشاب محمد بن سلمان الذي قاد تحولات جذرية لكسر هذا الجمود الذي أثقل كاهل المواطن السعودي، فشمر عن ذراعيه وبدأ بإزالة الغبار المتراكم عن الكثير من المفاهيم الخاطئة، فبدأ الأمر بصياغة ونشر مفهوم جديد عن المرأة باعتبارها شريكاً في الحياة العامة، بيد أن هذا المفهوم لم يقتصر على السماح لها بقيادة سيارتها، أو تمكينها من الانخراط في المعاهد الأمنية، بل تعلق بصورة أساسية بدمجها في نسيج العمل الوطني، مع الاهتمام بصياغة كافة القوانين المنظمة لدخولها معترك الحياة العامة.

لقد بدأت الأعمال الإصلاحية بالفعل في المملكة منذ عدة أشهر، ولم يظهر لنا أبداً ما أخل بالسلم العام أو أضر بالعقد الاجتماعي للدولة، فالفعاليات الخاصة بدور السينما والملاعب الرياضية اتسمت بالرقي وعدم الابتذال، والأسر التي تتلهف على حضور تلك الفعاليات لم يبدر منها ما يسيء لأعراف المجتمع ولا لتقاليده بأي صورة من الصور، وكل ما تم إنجازه هو فتح أحد الأبواب أمام الأسر للتنفيس عن بعض ضغوطها ومشاكلها اليومية بما يتناسب مع طبيعة هيكل المجتمع السعودي المحافظ.

ولعل الجانب الذي لا يقل أهمية عما سبق ذكره هو الجانب الاقتصادي المتعلق بسلسلة الإصلاحات الأخيرة، فلا يعلم أحد على وجه الدقة مقدار المبالغ الباهظة التي كانت تنفقها الأسر السعودية في الخارج على مجالات الترفيه، ولا كم بلغ حجم الإنفاق الداخلي على رواتب السائقين، لقد ربحنا الكثير من الأموال من خلال توفيرها وحصرها داخل حدود المملكة وأصبحت أموالنا لنا، وهو ما سيجعلها مورداً متجدداً يُضخ في عروق الاقتصاد مما سيرفع من كفاءة وفعالية عجلة الإنتاج، وهو ما سيؤدي في النهاية لانتعاش الاقتصاد السعودي، مما سيعود بالنفع على المواطن أولاً وأخيراً.

لا أستغرب بعض الأصوات الشاذة التي تناهض مسيرة الإصلاح وترفض صور الترفيه البريئة، ولا أتعجب إن وجدت أن بعضاً من هذه الأصوات هي من تنفق أموالها بالخارج على صور الترفيه المختلفة كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، ولكنهم يريدون للمجتمع بأكمله أن يعيش تجربة التناقض والجمود واللامنطق، لقد تعافى المجتمع بالفعل وبدأ في إكمال خطوات مسيرته الإصلاحية بحزم وإصرار، ويكفينا أنه لدينا قيادة جسورة لا يعرقل سعيها نفوذ الفكر القديم البالي، فلقد بدأنا المسيرة المباركة بالفعل، ولن يوقفها جهل الجاهلين ولا جمود المتطرفين.

* كاتب سعودي