مخطوط قديم لقصيدة الدجيما.
مخطوط قديم لقصيدة الدجيما.




لوحة للفنان فائق حسن.
لوحة للفنان فائق حسن.
-A +A
قراءة: علي الرباعي
خلّدت الذاكرة الشعرية نصوصاً خالية من الأيديولوجيات، كونها إنسانية النزعة، وعفوية التعبير، خصوصاً في تناولها حال عاشق عفيف لم ينل من محبوبه ما تمناه من وصل حلال، وبما أن العُرف العربي يمنع زواج المتشبب بمن تشبب بها، فلا مناص من لجوء إلى الشعر ليكون دليل إدانة الجائر من العادات والتقاليد، وللشاعر توبة بن الحمير مع ليلى الأخيلية قصة عشق لم تكتمل، وربما اضطر للهرب إلى عالم أسطوري لا علاقة له بالواقع ليدين عذّاله قائلاً «ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت، عليّ ودوني جندلٌ وصفائحُ، لسلّمتُ تسليم البشاشة أو زقا، إليها صدى من جانب القبر صائح».

والشاعر دخيل الله بن عبدالله الدجيما العضياني العتيبي المعروف بالدجيما له قصة مأساوية بدأت بتعلقه بفتاة من إحدى قبائل العرب، طلبها من أهلها للزواج، ولعلمهم بفقره وقلة ذات يده سعوا إلى تعجيزه فطلبوا منه ثلاثين ناقة مهراً، فاعتزى بعشيرته فرفدوه بالنوق، وساقها لأهل الحبيبة، فامتنعوا عن تزويجه، وقالوا نحن أردنا تعجيزك ولكن لن نزوجك وأنت تشببت بابنتنا وفشا خبر عشقك لها في القبائل، فأظلمت الحياة في وجهه، وزهد في الطعام والشراب، وعرضه أهله على أطباء لم ينجحوا في معرفة علته ولا تطبيبها، وقبل رحيله أنشد «هيّض عليّ الحيد في ربة الصيد، وطرى عليّه زيد بالود لا زاد، عدّيت أنا بالجال مع سرحة المال، وشفت الغبيط يشال والمال ينقاد».


ولم يتردد في كشف سبب ما آلت إليه حالته، في ظل عناء وتعب أهله في تلمس الطب له، واستخبار الناس عما يمكن أن يخفف عنه، ليبادر بإظهار ما خفي عليهم مع تسليمه بقضاء الله وقدره «جرحي كبيرن في الضماير خطيري، ولو هو بغيري ما شرب ماء وكل زاد، صابه لطيف الروح والقلب مجروح، واللي كتب باللوح جاني بالاوكاد».

ولأنه سيكون محل لوم ونقد جميع من سمع بحالته كون النساء كثر، وبإمكانه الاقتران بأخريات سواها، أراد أن يضعهم أمام صورة المحبوب، وربما بالغ في الوصف عادة الشعراء المغرمين «ابو فمٍ ينباج عن غرٍ افلاج، مثل الحيا البهاج بالمزن الانضاد، ونهود مثل الباض في مرجع الفاض، في وقت حتن القاض من قد الامهاد، كم اتصبّر عندهم واتجبّر، ما اقدر اعبّر والوجع في يزداد».

وكما قال الشاعر المعاصر (جس الطبيب يدي فقلت له، إن التألم في كبدي فخلِّ يدي) حاكاه شاعرنا «جابوا الطبيب ومن تردّي نصيبي، هو يحسب اللي بي تداويه الاجواد، المغربي جو به عليّ اوقفوا به، عطوه مطلوبه وداوى ولا فاد، يحسب بلايه علةٍ في شوايه، وانا بلايه ود مركوز الانهاد».

وعندما استشعر اقتراب منيته بدأ يوصي، وكانت وصيته غريبة على أهله وجيرانه إذ أعطاهم كامل التفاصيل التي تلزم لضريحه ومنها موقعه على طريق مسراح ومراح المحبوب «فوق الحفاير زيّنوا لي جداير، والحول داير حطو البير ميراد، وابنوا عليّه روشنٍ فيه فيّه، واخذوا شويه واجلسوا فيه يا لاد، والقبر لي سووه باعين مدوه، والبرج لي حطوه من بين الالحاد، حطوه يم البير قد المصادير، حطوه في درب الحبيّب إلى قاد».

والدجيما سبق الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) عندما اشتهى مرور الحبيبة على قبره، ودوسها على عظامه «بلغوها إذا أتيتم حماها، أنني مت في الغرام فداها، واذكروني لها بكل جميل، فعساها تبكي عليّ عساها، واصحبوها لتربتي فعظامي، تشتهي أن تدوسها قدماها» كما أنه تبع أسلافه من الشعراء المدنفين الذين تطلعوا لوصل من طرف واحد وإن بعد الممات.