-A +A
فؤاد مصطفى عزب
في مرحلة من مراحل الزمن، كان الحلم في بلادي غامضاً، لكنه واعد جميل، كانت تطلعاتنا بسيطة، تلتف الأسرة حول التلفزيون الأبيض والأسود، للاستمتاع بمسلسل «فارس بني عياد» لإحسان صادق وسميرة البارودي، أو حفلة أم كلثوم، أو برنامج أو فوازير، وكان المسجل هو آلة التشغيل المعتمدة لشرائط الكاسيت للأغاني، وكنا نتداول تلك الأشرطة فيما بيننا، أو ننسخها، وإذا انقطع الشريط يعاد وصله بلاصق سريع، وإن تردى صوت الشريط نضع قلماً جافاً في بكرته لنحركه بسرعة بعكس الاتجاه ومن ثم يعود الصوت واضحاً، كان إدخال التلفون الأرضي في المنزل بمثابة فرحة لا ينقصها إلا الزغاريد، وظل بيتنا بعدها لسنوات سنترالا لكل جيراننا، وحتى يأتي دور كل واحد منهم في التركيب، كانت الكهرباء تنقطع بالساعات، وكان السواد يتحول إلى صراخ كبير، ببهجة السهر على الشموع، كانت الحياة لقمة خبز، وكبشة حناء، وملعقة سكر، وحلما، لم نعرف أي شيء آخر في ذلك الوقت غير الحلم والتمني، وفجأة مالت كفة الدنيا، وسقط الجميع بين أنياب فكر متطرف مختلف عن طبيعتنا المتسامحة المحبة البسيطة، تحولت البلد إلى حجرة في حي عشوائي مزدحم يتلصص بعضهم على ما يفعله الآخر في كل ركن من أركان الحجرة، وما إن يغادروا تلك الحجرة حتى يكفر كل منهم الآخر ! كنا نعيش في جنة متواضعة وفجأة جاء من يرمينا في الجحيم، من المجحف أن تذوق طعم الفردوس الآمن، ثم يصبح كل شيء حولك مقبرة كبيرة، واختفت الأحلام، ودع الناس أحلامهم، أصابهم الإحباط، لا شيء في الأفق، من كان لديه حلم دفنه من اليأس، أصبحت الأحلام هشة كرماد عود ثقاب احترق للتو، عاش المجتمع في مقبرة جماعية للأحلام، وافتقدنا الفرح، كما يفتقد أحدهم إحدى عينيه بعد مرور رصاصة بها، وتطورت الأمور لتصبح أكبر من قابلية التصديق، كنا نقبع في جهة موازية للعالم لكن لا تشبه العالم في شيء، وكأنما الحياة بصقت علينا عنوة، عشنا صقيعا اجتماعيا لا يشبه صقيع سبيريا، صقيعا يدخل النفوس من كل ركن ويقيم مسجياً في وحل الروح حيث تقيم، ومع مرور الزمن فقدنا أطرافنا، وبترت أحاسيسنا، وأصبحت الكراسي المتحركة تلازم الجميع، غيبوبة 30 عاماً، كأننا في محيط ضياع، افتقدنا الحياة والشعور والفرح والإحساس، مثلما تفتقد الأوطان أبناءها، ومثلما يفتقد اليتيم أباه من أول ليلة قبر، عشنا بعجز ويتم، وأصبحت وجوهنا باهتة وقلوبنا بكماء، كان الجميع يؤلمهم فراغ الروح وضياع الفرحة، اغتيل حق الفرد منا في الاختيار، وأصبح الاختيار الوحيد، أن تقام الأعراس في العتمة، وتزرع الورود داخل المنازل، والعتمة هي التي تعلمك معنى الضوء، والكوارث هي التي تعرفك قيمة الحياة، تجعلك تفكر في مدى الكوة العميقة بيننا وبين إنسانيتنا ، عشنا مؤامرة كونية، كنا نتنصل

من أنفسنا حتى لا نجيب عن أسئلة العالم، كل شيء كان معتما، وللمرة الأولى، أصبحت الأفراح تغفو فوق أكتافنا، والسعادة تنتشر في الطرقات، ونصف المجتمع صار يشارك النصف الآخر في بناء الوطن، وأضحت المشاريع الحقيقية تتساقط على قلوبنا بنكهة النشوة، القلم ينضب حبره معدداً برامج الأمل، واستحداث المدن، ريح التغير تحث على الكتابة، الكتابة فعل، وفاعل، ومفعول بنا، ولنا، ألف عمر أفنيناه ننتظر أن نكتب كلاماً لمن يستحق على ما أعطى، شكراً يا رب أن منحتني عمراً لأعيش عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده المحبوب.


* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com