-A +A
فؤاد مصطفى عزب
الشتاء هنا في (لندن) بصقيعه ومطره وملابسه الشتوية.. البخار ينبعث من كل فم، والبرد يسري في كل الأوصال، غموض الشتاء وشموع مضاءة في كل مكان وسط الضباب الخفيف، ومطر يغسل القلب ويطهر المشاعر من شوائب البشر، ويبلل الرؤوس، ساحة (البيكادلي) تشتعل أضواءً وتتدحرج فوق الزينات، كنت أدفئ يدي عند بائع الكستناء وأنا أنتظر الحبات التي يشويها لي، التهمت حبات الكستناء الطازجة ولعقت الطريق، استعدت ذاتي من جديد، في حياة لم يعد فيها شيء طازج، أمر بنافذة مكتبة تعرض أحدث ما لديها، وقع نظري على كتاب ضخم ومميز اسمه (روبن) من تأليف (ديف ايتزكوف) المحرر الثقافي بصحيفة (نيويورك تايمز) يتناول حياة (روبن وليمز) وإبداعه وعبقريته وأيضاً وقوعه في براثن الاكتئاب والإدمان، يكتب المؤلف عن حياة (روبن وليمز) كلوحة تنتشي بتفاصيل هذا العالم المطروح درامياً، وكيف أن الاكتئاب سرى في نفسه كسريان الزورق المائل في الماء يرفرف رذاذاً ممعناً في الصهيل، وكيف أنه بالرغم من مظهره الهادئ مثل درج مئذنة إلا أنه كان يخبئ في داخله بركاناً برازيلياً ثائراً، يكتب بالتفاصيل عن الإنسان الفنان، وعن سنواته الأخيرة، وأيامه الأخيرة وهو يقاوم ويستسلم للاكتئاب، وباركنيسونيزم وأعراض أخرى جسدية ونفسية عديدة حاصرته وشلت قدرته، أو ربما رغبته في الحياة وصنع البهجة،١١ أغسطس ٢٠١٤ كانت صدمة أصابت الجميع بالذهول والدهشة وبفداحة الخسارة، الممثل الفنان العبقري (روبن ويلمز) في عامه الـ٦٣ فاجأنا جميعاً بانتحاره نتيجة حزنه العميق ووحدته القاتلة واكتئابه الدائم، وقراره الحاسم بـ(إسدال الستار) وكان وما كان وليمز الذي قال في أحد أدواره السنيمائية (مهمتنا أن نقوم بتحسين نوعية الحياة وليس فقط إرجاء الموت) وقال أيضاً (تشبث باليوم هذا سواء صدقت أو لم تصدق فكل واحد منا في هذه الغرفة وفي يوم ما سيتوقف عن التنفس ويتحول لجسد بارد ويموت)، وليمز قال أيضاً (لقد كنت أعتقد أن أسوأ شيء في الحياة هو أن تنتهي بك وأنت وحدك تماماً، يبدو أن هذا ليس هو الأمر الأسوأ، فأسوأ شيء في الحياة هي أن تنتهي بك مع أناس يجعلونك تشعر بأنك وحيد)، يقول عنه أصدقاؤه، كان من الصعب الإمساك به وتعريفه وتحديده في كلمات، (إنه العبقري الحبوب) و(الفيلسوف الودود) و(البلياتشو الحزين) و(الصديق الذي يعرف متى وكيف يضع يده على كتفك ويقول لك شد حيلك وأنا معك) (كان صديقاً يعرف كيف يحمل عنك الهم والغم) وكان يسأل عنا جميعاً وهو من يتصل بنا لا نحن، يقول أحدهم في الكتاب (ياااااه كان روبن وليمز يفعل كل هذا معنا ولم نستطع أن نساعده لكي لا ينتحر سنعيش بعقدة هذا الذنب ما حيينا) لقد قام (روبن) بإسدال الستار وإنهاء دوره.. قام بذلك حتى لو كان ما فعله خروجاً عن النص، والمخرج لا يريد ذلك، والجمهور العاشق لفنه كان متشوقاً ومتلهفاً لاستمراره في أداء أدواره المبهرة المبهجة، روبن وليمز، كان نقشاً حنون من الدم والأصابع، لازلت أسمع صهيل ضحكته الشبيهة بأريج البرتقال، كان يسكننا ويسكرنا، ويحدثنا عن نفسه فينسينا أنفسنا، كان وديعاً كقرية على الحدود، وببسمته العريضة التي تشق حاجز الشمس، ولكن لا أحد منا كان يعلم بحجم الجرح وطوق الوحدة التي كانت تأكل قلبه، انتهيت من الكتاب، ومشاعر لوعة غريبة مكثفة تهاجمني لعزيز مضى، لم أتمالك عيني من الحزن، طفرت دمعة، يبدو أنها كانت محبوسة وأرادت سبباً لأن تنفجر، أظن الأموات في حياتنا لا يموتون مرة واحدة، بل يتوهجون في الذكرى، رغم الفراق، كأنهم نقوش على الزمن!.

* كاتب سعودي