-A +A
جميل الذيابي
لا أزال متابعاً ومستغرباً من التحولات الحادة في مواقف عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الجمهوري ليندزي غراهام من الدفاع الدائم عن السعودية إلى الهجوم عليها بعداء وكراهية، ولولا أنه عرف بالاعتدال والتمسك بالقيم الأمريكية لما كتبت عنه شأنه شأن البعض.

بالطبع هو حر في مواقفه وسياساته، لكن باعتباره عضواً في الكونغرس منذ أكثر من عقد، هل يحق له، وهو مجاز في القانون وضابط احتياط برتبة كولونيل، أن ينصب نفسه قاضياً يتهم من يشاء كيفما يشاء، ويحاكمه، ويدينه، ويروّج لقناعاته الشخصية التي لا يسندها سوى هواجسه، وإحساسه بلا أدلة دامغة ؟


غراهام (64 عاماً) أكثر حلفاء السعودية حتى وقتٍ قريبٍ جداً، ولكن أخيراً أظهر مواقف متشددة حيالها، خصوصاً في أعقاب حادثة مقتل الزميل جمال خاشقجي، في إسطنبول، في أكتوبر الماضي. إذ ظهر على شاشات الفضائيات الأمريكية والغربية، مروجاً الاتهامات ضد القيادة السعودية، ومطالباً إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بفرض عقوبات على المملكة. وارتفع بسقف مطالباته ليستهدف بشكل شخصي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

وبعدما لم تجد بعض القنوات الفضائية الأمريكية اتهامات جديدة للاستمرار في قضية خاشقجي، خصوصاً بعدما أعلنت السعودية القبض على عدد من المتهمين، ومطالبة النائب العام بإعدام 5 منهم في هذه القضية، خرج غراهام أخيراً مكرراً الاتهامات نفسها التي وجهها إلى ولي العهد السعودي. وهي مزاعم فارغة دحضتها الكيانات السعودية الرسمية المعنية.

لا شك أن غراهام حر في اختيار مواقفه، وإطلاق تصريحاته، لكن لا يحق له أن ينصب نفسَه محامي ادعاءٍ وقاضياً في آنٍ معاً، في حين أنه لا يملك من الأدلة غير ما استقاه من تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. ايه.) الذي رفضته إدارة الرئيس ترمب لعدم صدقيته، حرصاً منها على عدم الإضرار بالعلاقة التاريخية الإستراتيجية بين الرياض وواشنطن.

ومن المستغرب أن غراهام كان نصيراً بارزاً للسعودية في الكونغرس، خصوصاً خلال الفترة التي واكب خلالها عضو الكونغرس الراحل جون ماكين الذي يعد من الأصدقاء الأوفياء للسعودية في الحزب الجمهوري الأمريكي.

والمؤسف أن غراهام يطلق اتهاماته، ويصدر إداناته خارج نطاق العملية العدلية، محتمياً بالدستور الأمريكي الذي يمنحه حصانة من أية مساءلة عما يقوم به أو يقوله بصفته النيابية. وهو ما يعني أن من يصيبه رَشَاشٌ مما يقوله لن يكون بمستطاعه ملاحقته أمام العدالة الأمريكية التي من المفترض ألا تسمح بانتياش سمعة الآخرين، وإلصاق التهم بهم من دون أدلة راجحة، وتلك من القيم الراسخة في القانون الأمريكي ونظامه القضائي.

إن حديثه المسيء بحق المملكة يمثل تدخلاً مرفوضاً في شؤونها الداخلية. وهو يدرك أن السعودية دولة ذات سيادة وحرة في اختيار قيادتها في ضوء آلياتها المعتمدة بحسب نظام الحكم، وأعراف العائلة المالكة، ووفقاً لمبايعة مفتوحة من أبناء الشعب السعودي، وأن سيادة الدول تقتضي عدم التدخل في رموزها وأقطابها.

لقد أعلنت السعودية مراراً أن جريمة قتل خاشقجي حادثة مؤسفة، مارقة، ومرفوضة، سيحاسب من ارتكبها كائناً من كان. وألقت القبض على 18 شخصاً حققت معهم بهذا الشأن، وطلبت النيابة العامة من القضاء السّعودي قتل 5 من المتهمين إذا ثبتت إدانتهم. فماذا يريد غراهام أكثر من تطبيق القانون due process؟ هل يريد للعدالة أن تأخذ مجراها، أم يريد أن تصير الأمور وفق هواجسه ؟

الأكيد أن غراهام كان بالأمس صديقاً للسعودية، واليوم يقف في طابور خصوم المملكة، ولكن العلاقات السعودية - الأمريكية قائمة على حسابات وتقديرات حكومتين وقيادتين تعملان على حمايتها وتعزيزها لما فيه مصلحة البلدين بعيداً عن الهواجس والعواطف اللحظية سواء من غراهام أو غيره.

وربما عليه تذكر قول الرئيس الأمريكي السابق (1953- 1961) أيزنهاور - «تاريخ الأحرار لم يكتب أبداً بالصدفة، ولكن بالاختيار». والسعودية لم يكتب تاريخها بالصدفة، ولا تزال دولة شابة قوية واثقة قادرة على مواجهة التحديات والرد على الفبركات، وليس لديها ما تخشاه.