-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لا شيء يشوه جمال فجر هذا الأحد، أو يخدش هدوء الصباح المهيب، لا شيء يفسد ابتسامة الصباح، أخذت طريقي إلى مكتبي، سرت في شارع فيصل بن فهد، ثم شارع محمد صيرفي، لأجد نفسي أمام حادث سير بين فتاتين، كانت الحادثة الأولى لكلتيهما كما يبدو، تجربة جديدة لم تعهداها من قبل، تجربة تحدث في غفلة أي منا، عندما يكون في شارع رئيسي، ويفاجأ بعربة تظهر له من شارع فرعي نتيجة لعدم تركيز السائق وخلو معظم الشوارع الفرعية من إشارة «قف»، كانت الرهبة تكسو محيا كل منهما، وتلوك في داخلهما شيئا عصيا كلحم الجمال، قلق جاف وحارق يملأ بدن كل منهما، الإحساس بالخطيئة والشعور بالعقاب يقتلانهما، تذكرت أول حادث لي عندما كنت يافعا، أحيانا في لحظة ما تتذكر حادثا واحدا من دون الحوادث كلها التي مرت بك، حدثاً مبطناً بروح زمنا طويلا، لكنه يحضر بنفس المشاعر تلك، كأن وجع الصدر الذي احتلني وأنا أرتطم بالعربة أمامي، بسيارتي التويوتا الكورولا الصفراء، عاد إلي وأنا أتقدم منهما، أعرف هذا الشعور الذي احتلني تماما، ذلك اللاعج الذي يحني الصدر والبدن ويحر العين ويبعث الجفاف في الحلق، الحادث الأول، ومن منا لا يذكره، أن «أرسطو» كان أنفذ وأصدق وهو يتحدث عن المحاكاة، مضيت في طريقي وسلمت عليهما وهدأت من روعهما وحمدت الله على أن لا أحد من البشر مصاب بأذى، كان ما كان علي أن أفعله، هو بالضبط ما كان علي أن أفعله، كنت أحس أن علي أن أفعل ذلك ببساطة ويسر، فالموقف لم يكن موضوعا للنقاش أو التردد، لحظة محرجة لهما تلاشت، بعد أن شرحت لهما ما عليهما فعله، طالما أن لديهما رخص قيادة محلية نظامية، وتأمينا على العربات، وأن ليس هناك إصابة لأحد منهما، وقمت بالاتصال بالجهات المعنية، وهم يشكرونني على هذا الأدب العابر، وكل منهما مستجيبة تماما لما هو مطلوب منها، وفي انتظار«نجم» أن يصل، ظهر من أحد

أبواب المنازل، تمساح مسن، ما إن شاهد المنظر حتى فرد حراشيف جسده، وراح يخرج من بدنه سموما، صرخ معلنا سخطه «قلنا لكم لا يسوقوا» كانت روحه تنقبض في داخله غضبا واستهجانا، كدت أختنق وأنا أستمع إليه وأنظر إلى السماء، أطلب من الباري أن يكشف عني هذا الضر، استمر يقول كلاماً ناقصا لا قيمة له، هذا صنف من الناس تتكاثر وتقوى حراشيف التماسيح على ظهورهم مع الأيام، ويتحركون في مستنقعاتهم المخضوضرة بدسامة الركود، لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية التقدم، ونصوع الحقيقة، أناس منقطعون عن الواقع، ومبتورو الصلة بالهم الحقيقي للوطن، عاجزون عن الدخول إلى عالم جديد، مستقرون كما هم، صورهم ثابتة في إطاراتهم العثمانية لأنفسهم، لقد واجهنا نحن الرجال مثل هذه الواقعة ولأكثر من مرة، بل وأن هذه التجربة يعرفها كل منا ويعرف تفاصيلها، فمن منا لم يقع له أو لأبنائه أو لأحفاده الذكور حادث في هذا البلد ؟ هل يستطيع أي متملق أن ينفي ذلك ؟ أليس هو الواقع والحق ؟ حضر «نجم» وانفض المولد، وذلك القرد ما زال يتقافز أمام داره، قرد من القرود الذين إن سحبت عنه الطبل والموزة سقط من جديد في خندق الخوف وعدم القدرة على المواجهة ومواصلة الرقص، ومضى النهار، وعدت إلى منزلي قبالة البحر، هذا البحر الذي اكتسبت بعضا من صفاته، ففي كل ليلة، آخر النهار، أعتبر كل ما حدث خلال النهار، مجرد شيء عابر، لا قيمة كبيرة له، إلا في أنه حدث، مجرد موجة أخرى عليها أن تتوالى وأن تتعاقب وأن يعلوها الزبد الذي يسقط عليه النور من النجوم أو القمر إذا ظهر، أو ظلال عبور البشر، بملابسهم ومشاعرهم وومضات النور في عيونهم، عندما ينتهي اليوم وأقف أمام البحر، أحدد أعمال اليوم المقبل، كما تنمحي أعمال اليوم الذي عبر وانتهى، كان يجب أن أكتب مع آخر سطر في هذه الواقعة «انتهت»، لكن هناك قصصا في الكون وجدت كي لا تنتهي لدى البعض، وسواقة المرأة واحدة منها.


* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com