-A +A
علي بن محمد الرباعي
كعادتها تنجح الشقيقة مصر بضربها أمثال إعلاء شأن المواطنة ودولة القانون في وجه كل الصفاقات والحماقات، وتحجيم التطاول الأعمى على مكونات الوطن، وكان شيخ الأزهر وهو يلقي كلمته عن مواطنة الأقباط من صحن الكنيسة يعيد للأذهان والأعيان السيرة النقيَّة للسلف الصالح المسالم، كما حضر رمز الأقباط بسمو داخل جامع الفتاح العليم، بينما رئيس الدولة ينصت للرموز الدينية المؤمنة بربِّها والمُعتَدَّة بوطنيتها.

لفتنا ابن خلدون في مقدمته إلى أن الأوطان التي تعلو فيها أصوات القبليات والعصبيات الصغرى يصعب على الدولة أن تتحكم بها ويتعذر على السلطة ضبط نزعات الأهواء والمفاخرة بالعشيرة إلا بمشقة وصعوبة، ما يستدعي تجريم كل نزعة تحاول تقديم نفسها بصورة أكبر من حجمها، أو تمارس دوراً رجعياً لا يليق بزمن دولة المواطنة.


الواقع يؤكد أنه لابد من حزمٍ وصرامة مع من يهوِّن شأن الدولة ومن يدعو بدعوى الجاهلية، ذلك أنه لا فرق بين إرهابي يحمل فكرة مغلوطة فيخرج على النظام، وبين موتور يرى أن قبيلته وعشيرته أقوى وأغنى من النظام أو الحكومة.

نحن جميعاً أتينا من انتماءات ضيِّقة أسرة ثم عائلة ثم جماعة ثم قبيلة ثم منطقة ثم إقليم ثم دولة وطنية، هي في نظرنا من أثرى الدول الوطنية بمقدساتها أولاً، ثم بقادتها الذين ينتمون لأعرق القبائل العربية إلا أنهم لم يتعصبوا لها، ليؤسسوا مفهوماً في الانتماء والولاء للوطن بعيداً عن الانتماءات العصبية، والتقليدية الماقبل سياسية خصوصاً ونحن في القرن الحادي والعشرين عصر الدولة الوطنية والصناعات، والابتكارات.

الإنسان مدني بطبعه، وهذا المصطلح يعني أنه قابل للتطور والتمدن، والمدني يقابل العسكري، والقَبَلي والديني، فيما مهمة الدولة تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع وفق صيغة قانونية وحضارية متناغمة مع حالة التطور البشري. اشتغلت النخب على إخراج المجتمعات من كل الأوضاع البدائية والانضواء تحت مظلة وطن واحد لا يعنيه اسمك ولا لقبك، ولا مذهبك ولا عبادتك وإنما التزامك بواجباتك تجاه الوطن واحترام قوانينه وأنظمته وتشريعاته وسلمه الاجتماعي.

الدولة نتاج تجارب وأنماط حُكْم مرَّ بها الإنسان، وهي أحدث وأنجح ما وصلت إليه الشعوب بعد احتراب طويل ومعاناة كأداء، فكانت أبدع التنظيمات وأرقاها كونها وفَّرت التعايش بين المجتمعات في ظل الدولة الحديثة، المدنية، أو دولة القانون.

لا أعرف لماذا يُجرِّح البعض هويته الوطنية. برغم قناعتهم أن الأفكار والآراء والمذاهب والأديان متغيرة ومتحولة، والوطن ثابت بالمواطنة لا بالمكونات المضطربة.