-A +A
نجيب يماني
ليس هناك مفردة شقيت بنوازع الريبة، وابتليت بمجامر الازدراء والتشكيك، مثل كلمة «الفلسفة»، على نصاعة معناها، ونبل مقصدها، واستخدامها بين قومنا بوعي ودون وعي منهم، رغم توجسهم منها، ومحاولة إبقاء مسافة «قانونية» بينهم وبينها، غير مدخرين الجهد والعزيمة في تنبيه الناس من مخاطرها على «العقيدة»، وما يترتب على التعاطي معها من «تغريب» يفضي إلى الاستلاب والانضواء تحت سطوات الفرنجة العقلية..

منذ أن أعلنت وزارة التعليم عزمها إدراج الفلسفة في المناهج التعليمية، أسوة بغيرها من المواد النظرية التي تدرس في كافة مناهج الأقطار في العالم، دون أن تكون مثل هذه الهواجس التي تنتابنا حاضرة في مشهدها.


إن المرء ليعجب أن يتولى التجهيل والتخويف والنذير من الفلسفة طائفة منتسبة إلى التدين، وتتخذ من ذات الخطاب الديني سوطها الزاجر لردع «المتفلسفين»، بما أشاع حالة من «البرنويا» أو «الفوبيا» من الفلسفة وسط مجتمعنا، بما شكّل وعيا جميعا مناهضا لاسمها، فما إن ترد مفردة «الفلسفة» حتى يصبح ذلك محرضا على التقريع بالفسوق، والتشنيع بالموالاة للغرب، ولهذا تكون لدينا عقل جمعي رافض للفلسفة، ونابذ لها دون أن يقرأ من مقرراتها سطرا، ولكنها تتشكل في الوعي الجمعي على صورة تُقارب «التعقيد والمماحكة والغموض والترميز»، أو الخروج عن المألوف، وغيرها من هذه «المنبوذات»، التي يعبر عنها العقل الجمعي حيال إنكاره لأي شخص يأتي بغير المألوف بالصوت الزاجر له: «دي ما يبغالها فلسفة».. فتعرف، ويعرف الجميع أن هذه الشقية؛ «الفلسفة» شيء غير محبذٍ؛ بل مكروه بالجملة..

هذا المسلك ما كان ينبغي له أن يصدر ممن ينتسبون إلى التدين، والعلم به، والتصدي للدعوة به، لو أنهم أنصفوا أنفسهم أولاً، وقرؤوا فكر المسلمين جيدا وعطاءهم في ساحة الفكر مثل الفارابي وابن سينا والمعري وابن رشد وغيرهم والذين اعتبروا أن العقل هو المعيار الأول للحياة، وعرفوا بالمقايسة نظيره الغربي في ما يتصل بعلم الفلسفة على وجه التخصيص، فهذا المنشط العقلي «الفلسفة» قديم قدم الإنسان في الأرض، وتشكل بأسماء عديدة واصفة له، ولم تكتسب كلها الشيوع والذيوع بقدر ذيوع هذه الكلمة، وحين النظر إليها بعين النصفة والتقدير يتبين خطأ الموقف المعادي لها، فهي في معناها العربي تتصل بـ«الحكمة»، مترادفاً مع معناها الإفرنجي أيضا، فأصلها اليوناني يتكون من مقطعين «phillien» وتعني «الحب» و«sophia» وتعني «الحكمة» وعلى هذا يكون الفيلسوف هو الشخص المحب للحكمة.. وهذا المعنى جوهر ما قامت عليه الدنيا كلها، واستندت إليه الرسائل السماوية، وحضت عليه الرسالة المحمدية، في حثها على البحث عن الحكمة في الأشياء، وإعمال العقل فيها، والتدين بوعي لا على سبيل الاعتياد والمحاكاة والتقليد، ولهذا كان إسهام المسلمين الأوائل في هذا الجانب ثريا وعظيما وجديرا بالحفاوة والنظر والدراسة، سواء سميت هذا المنجز فلسفة أو حكمة، فلا مشاحة في المصطلح، وإنما الغاية في المحصلة والنتيجة. أن إسهام العقل العربي، والمسلم كان كبيرًا في هذا المجال، وبوسعك أن تشير لمحًا لمنجزات عقلية منذ الجاهلية، وتنظر إلى خطب قس بن ساعدة الإيادي بوصفها «فلسفة» في مفهوم الحياة والبقاء وما بعد الموت، وتقرأ الإنتاج الأدبي بما اشتمل عليه من تصورات كونية على هذا المفهوم المقارب أيضا، وتنتقل في هذه الدوحة العقلية دون وجل أو خوف على «عقيدتك» بما أنتجه علم الكلام وأصول الفقه وعلوم اللغة عند المتأخرين، منذ المعتزلة وحتى يومنا هذا، وتقرأ مطمئنا منجز الإمام الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، والرد عليه من قبل «ابن رشد» في تهافت التهافت، فحتى إبداء الرأي في الفلسفة هو ضرب من ضروب الفلسفة أيضا، وهو عين ما يشير إليه الفيلسوف ديكارت بشمول نظرته حين قال: «سواء أفلسفنا أم لم نفلسف؛ فنحن نفلسف.. إذا، إما أن نفلسف، وإما أن لا نفلسف، وفي كل حالة نحن نفلسف».. لقد كان ابن رشد الفقيه العالم رائد الفكر الفلسفي الإسلامي أخذ منه المفكرون التنويريون في العالم الأوروبي محاولاتهم ونهلوا من منبعه واستطاع أن يقدم العقل في مواجهة الخرافة والانغلاق المتصلب حول النصوص وتفسيرها. فأفكار ابن رشد الفلسفية الراديكالية الحرة استطاعت أن تلهم أوروبا الخروج عن السلطة التقليدية للكنيسة وتحكم رجال الدين في مفاصل الدولة وكان لها أثر كبير في أوروبا ونهضتها الحديثة وانتشالها من ظلام العصور الوسطى.

إن خطوة وزارة التعليم بتدريس مادة الفلسفة خطوة مهمة في تحريك ساكن العقل، ولهذا فكل ما أرجو أن لا يكون محتوى هذا المنهج قائما على ترحيلها من محاضنها العربية والغربية على السواء لتصبح مقررات «واجبة الحفظ» لدى طلابنا وطالباتنا، فهذا المسلك في حقيقته يجافي روح الفلسفة المستفزة لسعة العقل في انطلاقه ومجادلاته ومباحثه المستمرة، اجعلوها مادة نشطة فوارة بالتفكير والأخذ والرد والمساجلة، وليست جامدة بالحفظ والاسترجاع التسجيلي المحنط، لتكن مادة تكسب الطالب جرأة صناعة الرأي، وإنتاج الحجة، واجتراح البرهان، والمجادلة والمحاورة دون وجل وخوف والذهاب بالعقل ومع العقل دون أن يكون ذلك مصحوبا بمحددات «الآخرين» وأصواتها الزاجرة دوما «ما يبغالها فلسفة».. فالواقع اليوم يقول «يبغالها فلسفة»..!

* كاتب سعودي