-A +A
بشرى فيصل السباعي
عندما كنت بحوالى الثالثة عشرة من العمر قرأت مقالاً بمجلة كان كله تحسراً وأسفاً وأسى على فقد الإنسان لمثالياته مع التقدم بالعمر حتى يتكيف ويصبح كغيره مملوءاً بالمرارات على فقده مثالياته البريئة التي كان يعتبرها مطلقة بمطلع حياته وبداية وعيه بسن المراهقة، وأثر هذا المقال فيّ بعمق جذري لأنه نقل قناعاتي بالمثاليات العليا من اللاوعي إلى الوعي، أي صار الحفاظ عليها هدفاً لكي لا أصبح مثل الناس بالمقال، ويفقد الناس مثالياتهم بالتالي.

أولاً: صدمات رؤيتها تخرق من قبل الجميع حتى من يفترض أنهم القدوات عند وضعهم على محك امتحانات ومغريات الواقع، ثانياً: تسطيح المثاليات وجعلها بالمظاهر وليس بالجوهر، ثالثاً: عدم قيام الفرد بتكريس بنيته الفكرية النفسية القيمية الأخلاقية السلوكية الروحية بشكل ذاتي مركز ومباشر، واعتماده فقط على ما يتطبع به بشكل عشوائي منذ صغره وعبر محيطه ووسائل التأثير العامة من أنماط وقوالب؛ ولذا لا تكون لديه أي مثاليات مكرسة بشكل ذاتي جوهري حقيقي، ولهذا لا يبدو أن هناك أي أثر لها بسلوكه تماما كالفارق بين من كامل كأسه مليء بحليب صافٍ وبين من كأس مائه فيه نقطة حليب ونقطة عصير ونقطة قهوة، فبالطبع لن يكون لشرب الكأس أي فائدة من فوائد شرب الحليب الصافي أو العصير الصافي أو شرب القهوة الصافية، فالمثاليات التي كان قد تعلمها بصغره عليه أن يتحلى بها.. عندما يكبر ويدخل معترك الحياة ومحكات امتحان معدنه أي بنيته الداخلية سيجد نفسه لا يتصرف بتلك المثاليات إنما سيتصرف بلا وعي بغرائزه وأهواء وأطماع الأنا والقوالب السائدة والثقافة الموروثة والتيارات الرائجة ويصبح مجرد ريشة في مهب الريح.. مجرد حصاة يجرفها تيار نهر الواقع بلا وعي منها، وبهذا يفقد الإنسان روحه للدنيا ولا يبقى له منها إلا مرارات فقدها، وهذا ما يجعله متشائماً حول طبيعة الأقدار والعالم والناس ويصبح شخصية سلبية منفرة كل كلامها ندب وتظلم ومسكنة، مع العلم أنه في الوقت الذي يتشكى فيه من صدمته بنقض الآخرين لكل المثاليات المفترضة في علاقتهم، فالشاكي نفسه يتصرف بالنمط ذاته مع غيره ويبرر ذلك بأن هذا ما يستحقه الناس لأنه لا حقيقة للمثاليات بالواقع، لكن من يبقى محافظاً على مثالياته كما كانت بمطلع عمره مهما مر بصدمات وضغوطات وتعرض لإغراءات فهو الذي خاض الجهاد الأكبر داخله للحفاظ على تلك المثاليات بغض النظر عن سوء الآخرين موقناً أن المثاليات حقيقية لأنه يطبقها.


* كاتبة سعودية

bushra.sbe@gmail.com