-A +A
فؤاد مصطفى عزب
وهذا مقطع من إهداء الكاتبة الاستثنائية والرمانة التي اكتنزت في جوفها كل أشواق البساتين، غابة الحب الشاسعة التي ما إن تضع رأسك تحت ظلها حتى تتحول إلى كتلة ريش من العطف والحنان «أحلام مستغانمي» لإصدارها الأخير «شهيا كفراق» والذي فرحت به كعائلة عقيم بطفل حط على كفه للتو، كتبته كما تقول في «زمن الوصفات الجاهزة، كيتيمة حب وثكالى وطن، وترشد من يريد أن يصطاد عربياً في شوارع الغربة اليوم إلى صفاته، بأن ظله سمات الهون ونقص الحنان وذعر اليتامى في غاب الحياة»، كان لقائي الأول بـ«أحلام مستغانمي» في أوائل التسعينات في المدينة التي يتكئ الشمس فيها على البحر «بيروت» وهذا ليس بغريب، فإنا من عشاق «بيروت» عشقت في «بيروت» كل شيء؛ الجبل، والريحان، ورائحة النعناع، والحبق، واللبنة، وزيت الزيتون، واللوز الأخضر المتبل بالماء والثلج، والليمون، كانت سنوات ترددي على «بيروت» يافعاً وقبل سفري إلى أمريكا، فترة تكويني الفكري، شاهدت نزار قباني وأنا في الخامسة عشرة في بهو الجامعة الأمريكية ينشد أحلى القصائد، وسمعت حوار غادة السمان، وقرأت أجمل التراجم للأدب العالمي، واستمعت إلى فيروز في بعلبك، وكنت استمتع بالجلوس في المقاهي الصغيرة على الروشة، وكانت عبارة عن نوادٍ محلية،

وصورة من الحياة السعيدة، تدور كؤوس الشاي فيها ويتوهج فحم «النارجيلة» وتسمع قرقرتها، وتتطاير رائحة التنباك العجمي من كل ركن في هذه المقاهي، وكراسي القش يتناولها ويتناقلها رواد المقاهي، حسب العدد المحاط بكل طاولة بحب، ذهبت مع الحبيب المرحوم أبي وجدي الأستاذ عبدالله جفري، إلى «بيروت» والتقينا بالأستاذ الصديق «محمد دمياطي» رئيس تحرير مجلة الفضائية التي كانت تكتب بها «أحلام» في تلك المرحلة بالصفحة الأخيرة، كنت أقرأ لها تلك الصفحة التي كانت أصل الضوء المبهر والشمعة أو عواد الكبريت، التي تعرفت منها على أدب أحلام، كنت أقرأ لكاتبة تطل على ما ترى من زاوية لم يقف فيها من قبل سواها، ولا يستطيع أن يقف فيها سواها، فهي تهوى ما تتخيل حتى الهوس، فتكتب حباً حقيقياً، أحياناً أكثر من اليقين، يظل خالداً في النفس كالوهم، واجتمعنا في أمسية، ضمت الكاتبة أحلام مستغانمي والكاتبة مريم أبو جودة، والأستاذ عماد حقي، وملكة جمال الكون جورجينا رزق وزوجها الفنان وليد توفيق، في اليوم التالي أهدتني أحلام روايتها ذاكرة الجسد، وقرأت الرواية التي كانت قصائد استغاثة على شكل جروح مشرفة على الفراق، دغدغتنا حينها، وعذبتنا، ومزقتنا، ولكنها زرعت في دروبنا محطات ملونة، وأحببت بعدها مدرسة أحلام، ونلت شهادة العشق الأولى، حيث كنت أول من كتب عنها ككاتب سعودي، وأحلام عندما تلتقي بها لا تتغير صورتها كثيراً عن ما تكتب، فنصفها الآخر صوتها العميق، لا يختلف كثيراً عن قلمها، صوت مشحون بالدفء، فأحلام عندما تحدثك، تغلق تابوت الحنين عليك، وترش السكر على أطرافك وتضيء الشعاع التاسع في نفسك، تلبس الكلمات قمحاً وأكماماً من الورد، سيدة شفافة كالذكريات، وصلبة كالماء، تقول أشياء بسيطة فتنفذ إلى الإنسان فيك، وساهمت أحلام عندما انتقلت للكتابة في الصفحة الأخيرة من مجلة «زهرة الخليج» إلى أن تحتل بحروفها الرائعة الأنيقة الصفحة باقتدار وأجبرت الكثيرين من مختلف الأعمار على أن يتجهوا إليها حشوداً، يسافرون إليها، تحملهم قلوبهم كعلم أحمر، وتستقبلهم أحلام على عتبة صفحتها الأسبوعية لتوزع عليهم، الكلمات كدواء صيني، والحروف كأعشاب هندية، تغسلهم بضياء حروفها، وتخيط لهم من عباراتها أثوابا ملونة فتتحول دموعهم إلى ابتسامة وحنايا عيونهم المتعبة إلى عصافير وملاعب، لكل ذلك جاء إصدارها الأخير «شهيا كفراق» صورة جديدة للحب الإنساني الصادق، خالية من التجاعيد، فأحلام لا تزال تجيد فن عشق الإنسان، لا تزال في كلامها رائحة المطر الذي يشعل في النفس ذلك الحنين الجارف إلى التوحد مع تربتها في عناق لا يصحو فيه الزمان.. أترككم معها وهي تصف لكم الرجل الذي تكتب عنه في «شهياً كفراق»: «قصتي مع هذا الرجل تشبه النشرة الجوية، لا يحدث شيء مما أتوقعه، تأخذ مظلة فتسطع الشمس، ترتدي قميصاً وإذا بها تمطر، أقول انتهيت عنه فيبعث حيّاً»:. لقد انتهيت للتو مما كتبت أحلام، ولكن بي لوعة أن أعود فأقرؤه من جديد، أهلاً بعودتك يا أحلام، ما أقلنا لو ابتعدتِ!


* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com