-A +A
طلال صالح بنان
في العالم العربي، لم يعد هناك من يردد، أو ربما يتذكر، شعار: فلسطين حرة من النهر إلى البحر. شعارٌ كان بمثابة الوعد الملزم والواجب النفاذ بمساعدة الشعب الفلسطيني بتحرير أرضه التاريخية من نهر الأردن شرقاً إلى البحر المتوسط جنوباً، من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي. لم يكن شعاراً ألزم العرب أنفسهم بتحقيقه، بل كان شعارا رددته كل شعوب الأرض.. وجرى على لسان كل إنسانٍ حرٍ ذي ضميرٍ حيٍ يؤمن بالدفاعِ عن حقوق الإنسان الطبيعية والمكتسبة، غير القابلة للتصرف، التي لا يقوى أي واقعٍ جائرٍ، مهما بلغ جبروت من يحاول فرضه.. أو مكابرة من يساعد المحتل الغاصب على استمراره.

في خضم ما جرى في العقود الأربعة الماضية، من تسويات سياسية.. ومناورات يائسة، ليس على المستوى الأممي، فحسب... بل على المستوى الإقليمي، للقبول بواقع إسرائيل، التي وصلت إلى مراحل متقدمة من الدعوة، بل الجرأة، على المناداة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى قبل إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، علا يوم الأربعاء الماضي، في معقل الصهيونية المنيع (نيويورك)، ضمن فعاليات اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي ترعاه الأمم المتحدة، صوتُ إنسانٍ حرٍ، ليُذَكّر العالم بهذا الشعار الإنساني النبيل.. ويجدد التزام الإنسانية بحمل لوائه، لمواصلة جهود تحقيقه.


البروفيسور (مارك لامونت هيل) الاستاذ بجامعة تمبل رد على دعاة القبول والتطبيع مع إسرائيل، مُذَكِّراً إياهم بالتزامهم السياسي والأخلاقي والإنساني: أن قضية الشعب الفلسطيني لم تمت بعد في ضمير الإنسانية.. وأن الواقع، الذي يتسق مع حركة التاريخ الخيرة، هو: فلسطين الحرة الممتدة من النهر إلى البحر.. وما إسرائيل إلا انحراف عن جادة مسيرة حركة التاريخ، ستزول عاجلاً أم آجلاً، لتستقيم مسيرة التاريخ التقدمية في مسارها الصحيح نحو تحقيق الغاية الخيرة من حركتها، التي تكلؤها العناية الإلهية، فيسود السلام.. وتتحقق العدالة، على أرض الرسالات.

في تقدير البروفيسور هيل: لن يكلفه هذا التعبير في محفل أممي عام عن رأيه الحر اتساقاً مع ضميره الحي، أكثر مما يعانيه من تكلفة السكوت عن الجهر بالحق، ولا نقول: مجاراة لغة الباطل في الترويج للظلم والاحتلال واغتصاب حقوق الشعوب، غير القابلة للتصرف. لقد كان متسقاً مع ضميره وإنسانيته وأمانته العلمية، عندما ردد شعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر. فكسب الكثير، ولم يخسر سوى تعاقده الجزئي مع محطة الـ CNN الإخبارية، التي خسرت هي من سمعتها في دعواها ودعوى الديمقراطية الزائفة، لتنتقي من قيم الليبرالية ما يتسق مع مصالحها، لا مع مهنيتها. في المقابل: نجد المؤسسة العلمية، التي ينتمي إليها، تنتصر له اتساقاً مع قيم الليبرالية الحقة، لتعلن: أن البروفيسور هيل لم يتجاوز عندما عبر عن رأيه، وهي تحترم خياره الشخصي.. وتعلن تأكيدها الالتزام به في رحاب حرمها العلمي.

ثم أن البروفيسور هيل لم يجافِ الحقيقة، عندما ذَكّر العالم بشعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر. حتى في إطار التسويات المجحفة للشعب الفلسطيني، التي يروج لها مناصرو إسرائيل، في الغرب.. ويتبناها مروجو الاعتراف بواقعها والدعوة للتطبيع معها، في المنطقة. مشروع الدولتين، الذي اقترحته الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن بداية الألفية الحالية، يدعو لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (من النهر إلى البحر). مشروع المبادرة العربية، التي أطلقها الملك عبدالله، يرحمه الله، تقريباً في نفس الفترة.. وأقرها مؤتمر القمة العربية في بيروت ٢٠٠٢، أيضاً: طالبت بدولة فلسطينية، في ما بقي من أراضي فلسطين قبل عدوان ١٩٦٧... أي: دولة فلسطينية من النهر إلى البحر. لقد فسر البروفيسور هيل قوله بهذا المعنى، عندما ووجه بعاصفة صهيونية شعواء، متهمةً إياه بمعاداة السامية.. والتحريض على العنف، والدعوة لزوال إسرائيل، قائلاً: إن إشارتي (من النهر إلى البحر) لم تكن دعوة لتدمير أي شيء أو أي أحد... مضيفاً: إنها دعوة لتحقيق العدالة للجميع (الفلسطينيين والإسرائيليين).

ربما ما أزعج الصهاينة ومؤيديهم، في الولايات المتحدة، أن أورد البروفيسور هيل الشعار كاملاً. إسرائيل، وكثيرٌ من الصهاينة، قد لا يمانعون قيام دولة فلسطينية، من النهر إلى البحر، على ألا تكون حرة، معبرة عن ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير. هم يريدون دولة مسخ، لا تعبر عن سيادة الشعب الفلسطيني على أرضه. دولة لا جيش لها.. ولا اتصال لها بالعالم الخارجي.. ولا القدس عاصمتها، تخدم أمن إسرائيل، لا تعكس تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة وهويته الوطنية، كبقية شعوب الأرض الحرة.

طال الزمان أم قصر، سينال الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية والثقافية والجغرافية في كامل فلسطين، من النهر إلى البحر، بإرادة الشعب الفلسطيني الحر المرابط على أكناف بيت المقدس. ذلك هو وعد الله.. اتساقاً مع حركة التاريخ، التي تُسَيرها العناية الإلهية.

عندها يعم السلام أرض الرسالات.. والعالم، من وراء ذلك.

*كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com