-A +A
عبدالرحمن الطريري
استضافت باريس مؤخرا أكثر من 60 زعيما في الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، صحيح أنها لم تكن الحرب الأخيرة، إلا أن اتفاقيات نهاية الحربين الأولى والثانية، تستدعى في ذاكرة الأجيال الأوروبية الجديدة للتعريف بقيمة السلام، وبملايين القتلى الذين كانوا ضحية تغليب منطق القوة.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في أسوأ فتراتها الاقتصادية، وتراجعت حصصها من حجم السوق العالمي لصالح الولايات المتحدة، واستقلت المستعمرات تباعا ليمثل ذلك ضغطا اقتصاديا إضافيا.


لكن الأوروبيين لم يكتفوا ببناء أوطانهم والاعتناء بتعليمهم فقط، بل ذهبوا إلى قيمة التكامل، وتوحيد الجهود الاقتصادية والذهاب لعملة مشتركة، وهذا الأمر استدعى الكثير من الغفران، وأن أتسامح مع فكرة أنك قتلت والدي وأعمل معك على أن يعيش ابني وابنك في سلام.

واستدعى ذلك اختيار عاصمة كبروكسيل لتكون عاصمة الاتحاد الأوروبي، لم يصل الأوروبيون بين ليلة وضحاها لاتفاق على شكل الوحدة التي كانت مطروحة من الخمسينات، وكان لنابليون تصوره للوحدة، ولهتلر أيضا تطبيقاته للوحدة بالقوة، وفي تاريخنا العربي ممارسات مشابهة.

توصل الأوروبيون إلى معاهدة ماستريخت في العام 1992، وأخذت حيز التنفيذ في العام الذي يليه، لم ينضم الجميع ولن يبقى الجميع، كرواتيا انضمت في العام 2013، وبريطانيا ستغادر في مارس 2019، وقد سبقتها ثلاثة أقاليم بالمغادرة، وعدة دول في أوروبا الشرقية تنتظر الانضمام ولن يسمح لها قبل استيفاء شروط الانضمام الاقتصادية.

كما قبل الاتحاد الأوروبي بألّا تتحول دول منضوية إلى اليورو، فاحتفظت بريطانيا بجنيهها وسويسرا بفرنكها، واحترمت رغبات دول قوية اقتصاديا رفضت الانضمام، وتطورت لتقيم علاقات اقتصادية مثل اتفاق «سيتا» بين الاتحاد الأوروبي وكندا، يعفي كندا من الرسوم التي تفرض على البضائع غير الأوروبية الواردة للسوق الأوروبي.

التاريخ الأوروبي، من دروس الحرب إلى العناية بالتعليم والاقتصاد، إلى «الممكن» سياسيا في ظل تغيرات شعبية على رأسها زلزال البريكست والذي كاد يعصف بالاتحاد الأوروبي، وموجات ظهور اليمين في هولندا وفرنسا وتقويضه لأكثرية ميركل في البرلمان عبر أحزاب كـ«البديل لألماني»، وصولا إلى عدم اتفاق الجميع على أن روسيا خطر على الاتحاد الأوروبي، يبقى هناك الكثير من الدروس لآليات «التكامل» في العالم العربي وليس «الوحدة».

وعندما يتحدث ولي العهد السعودي عن عدة دول عربية يتوقع سموه أن يتغير شكلها خلال خمس سنوات، فهو يرسل رسالة أن هناك بذرة لتكامل بين عدة دول عربية اقتصادية وفي عدة مجالات قد يكون آخرها السياسة، وأن هذه الكتلة الاقتصادية ستكون عامل جذب لانضمام دول أخرى.

وهناك عدة أسس للتكامل على رأسها الثروة البشرية في العالم العربي، التي تمكنت للوصول لمزيد من المعرفة في عصر المعلومة، في مقابل تراجع لمعدل الأعمار في عدة مناطق جغرافية كأوروبا.

كما أن الدول العربية تتباين في مقدراتها الطبيعية وثرواتها، فهناك دول مثالية للمشاريع الزراعية، وهناك دول ثرية بالنفط والغاز، وهناك دول تتميز بمعادن نفيسة، كما يوجد تنوع في مهارات الشعوب، حيث تتميز دول بصناعة النسيج وأخرى بالصناعات الغذائية.

التحديات اليوم كبيرة وستزداد في المستقبل، وضرورات العمل المشترك بالغة الأهمية من أجل مستقبل أبنائنا، ربما أن تكون السياسة آخر ما نتفق عليه هو الباب للنجاح.

ربما إذا عملت مراكز الدراسات والبحوث والجامعات، واستكملت مشاريع قطعت أشواطا بالفعل كمشاريع السوق المشترك والاتحاد الجمركي، ومشاريع النقل وربما عملة موحدة يكون الانضمام لها تدريجيا.

عندها سيكون الحلم أقرب للحقيقة، وكل منجز تاريخي بدأ بحلم..

* كاتب سعودي

Twitter: @aAltrairi

Email: me@aaltrairi.com