-A +A
محمد مفتي
من المؤكد أن المركبات لا تمثل نظاماً تكنولوجياً متقدماً يحتاج إلى براعة تقنية ومهارة بدنية، كما أن قيادتها لا تحتاج إلى امتلاك مؤهلات علمية وقدرات عقلية خارقة، أما ما تحتاجه بالفعل فهو تفعيل منظومة أخلاقية مُلزمة، وفي المقابل فإن ذلك لا يعني عدم التشدد في فرض وتنقيح وتطوير اللوائح المرورية بل والتشدد في تطبيقها، ويعد نظام ساهر أحد أهم العوامل الجوهرية التي أسهمت في تطوير المنظومة المرورية في المملكة، وكان دافعاً رئيسياً وجوهرياً في انضباط السائقين وخفض عدد الحوادث المرورية وتقليل خطورتها.

من المؤكد أن المسؤولين في المملكة يولون اهتماماً ورعاية كبيرة للمنظومة المرورية، وهو ما ينعكس في التحديث والتطوير المستمر للوائحها وقوانينها التي يتم تحسينها باستمرار لضمان تمتعها بالشمول والنفاذية والموثوقية، وهو ما لمسناه من خلال حزمة التحديثات التي صدرت قبل فترة للوائح وأنظمة تعديلات نظام المرور، ممثلة في إدخال العديد من التعديلات على أنظمة مدارس تعليم قيادة المركبات، وإجراءات استصدار رخص القيادة، وإجراءات مباشرة الحوادث المرورية وطرق التعامل مع أطرافها، بخلاف تعديلات جدول المخالفات المرورية والعقوبات المترتبة عليها.


ولكن على المستوى الإنساني والشخصي أعتقد أن القيادة تعكس شخصية وسلوكيات قائد المركبة، فهدوء قائد المركبة أو انفعاله يعكسان مدى انضباطه أثناء القيادة سواء بوجود الأنظمة المرورية أو عدمها، ولعله من فضلة القول أن نُذكر بأنه كلما تم التشدد في تطبيق القوانين المرورية كلما قل التفاوت بين سلوك قائدي المركبات، فالجميع يلتزم بتطبيق القوانين المرورية، وفي هذه الحالة يصعب التمييز بين الملتزم أخلاقياً والملتزم خوفاً ورفضاً لدفع الغرامة ونيل العقاب، غير أن الفرق يتضح جلياً عندما تتم القيادة في مناطق لا يتم فيها التشدد في تطبيق اللوائح المرورية.

لا تسع السطور هنا لذكر الكثير من النماذج التي تمثل قمة الغرابة في السلوكيات المفرطة في الأنانية التي شاهدتها وربما شاهدها الكثير غيري، لكن لعل سرد بعضها يوضح لنا أن القوانين المرورية لا تجدي كثيراً دون التحلي بمنظومة أخلاقية، أذكر -قبل أيام- عند قيادتي في أحد الشوارع التي لا تتسع إلا لمركبة واحدة، أنني وبمجرد أن شارفت على الوصول إلى نهاية الشارع حتى فوجئت بدخول مركبة يقودها شاب تتوقف أمام عربتي، وعندما طلبت منه العودة قليلاً للخلف حيث إن المسافة المتبقية لي لا تتجاوز عدة أمتار، طلب مني بصلافة وبلا مبالاة العودة للخلف لأول الطريق لأفسح له المجال، مثال آخر وهو عند رغبة البعض في القيام بدوران U-Turn في إحدى الطرق، تجد أن هناك الكثير من المركبات مصطفة بالتوالي للوصول إلى مدخل الدوران، وقد تُفاجأ وقتها بمركبة تتجاوز كل هذه المركبات المصطفة ويقوم قائدها بإقحام مركبته عنوة وباستهتار لعمل U-Turn، معطياً نفسه الأولوية والأفضلية عن غيره، وبرأيي أن هذه السلوكيات وأمثالها ترفع من حالة الغضب لدى الكثير من السائقين بوجه عام وتدفعهم للرد بعداونية نتيجة الشعور بالحنق من تلك الأنانية وعدم الانضباط، وهو ما يولد الرغبة لدى الجميع في المزيد من التشدد في فرض المزيد من العقوبات المرورية، علها تردع أمثال هؤلاء وتحد من تسيبهم وأنانيتهم المفرطة.

نحن بحاجة -وقبل التفكير في الأنظمة المرورية التي تحد من هذه السلوكيات المتهورة- إلى ترسيخ مفهوم أخلاقيات القيادة، حتى يتوقف السائقون عن محاولة خرق القواعد المرورية أو التنصل من الالتزام بها كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، فنحن نريد من قائدي السيارات التوقف في الإشارات الحمراء كنوع من الالتزام الأخلاقي، وليس لمجرد الخوف من العقوبة، ولن نصل أبداً لمستوى الأمان المطلوب عند القيادة، كما أننا لن نحظى بقيادة سلسلة وآمنة على الطرق إلا عندما تصبح الأخلاقيات الحميدة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة قائد المركبة.

لاشك أننا جميعاً نلمس تردد الكثير من النساء عن القيادة حتى لحظتنا الراهنة، على الرغم من حصول أغلبهن على رخص قيادة من الخارج، وذلك خوفاً من تهور بعض قائدي المركبات، ولا تقتصر مهمة ترسيخ السلوكيات الإيجابية الفعالة بين قائدي السيارات على مكاتب تعليم القيادة فحسب، بل هي مهمة توعوية تتشارك فيها العديد من المنابر والمنصات، منها ما هو رسمي ومنها ما هو تطوعي وتوعوي، ومنها ما يأتي بطريق الترهيب ومنها ما يأتي بطرق الترغيب المختلفة، غير أن هذا الأمر يجب أن يحتل مكانة مهمة في ثقافتنا لدلالاته على مدى التطور الحضاري والثقافي لأبناء المملكة.

* كاتب سعودي

mohammed@dr-mufti.com