-A +A
محمد آل سلطان
لا يشك عاقل أن الحملة الإعلامية المسعورة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً على المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تكون ضرباً من البحث عن العدالة أو الحقيقة، فالسياسة وابتزازها دائماً ما تكون أسوأ محام عن الفضيلة والعدالة، السياسي وحده هو الذي يرى أن حالة قتل فردية قد تكون أهم لديه من قتل وتشريد الملايين من الشعوب في الأرض!

المملكة بدورها تستعيد منذ نهاية الأسبوع الماضي زمام المبادرة في حملة التشويه التي تمر بها، وتعيد الأمور السيئة التي حدثت في قنصليتها في إسطنبول إلى المسار العدلي والجنائي الذي يحاسب فيه المتهمون وفق القانون والنظام على تهمتين؛ الأولى جريمة القتل نفسها والثانية جريمة الإساءة إلى سمعة بلد عرف طوال تاريخه بتسامحه، حتى ليس مع أبنائه الذين يسيئون إليه بل حتى مع من خطط لجريمة اغتيال لأحد ملوكها وهو الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز..


المسار العدلي بما يتضمنه العمل الكبير الذي ينتظر النائب العام من تحقيق الاعتراف وجمع القرائن والأدلة الجنائية والتعاون مع الجانب التركي في هذا الإطار هو المسار الصحيح والعقلاني الذي أحرقت فيه المملكة قلوب كل المتربصين بها، حيث لم يتوقعوا أن تكون المملكة بهذه الجرأة والشجاعة في الاعتراف بأن عناصر خارجة عن التحكم والسيطرة وبناء الإجراءات وفق تسلسلها النظامي اقترفت هذا الفعل الشنيع، وهذا يحدث كثيراً في معظم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في كل أنحاء العالم.

وينبغي في رأيي التعجيل بسرعة استكمال المسار العدلي لأنه هو وحده الكفيل بإخراس كل الألسن الحاقدة والمواقف المتلونة لتجار السياسة والأزمات، خاصة أن أعداء المملكة من جهة أخرى لا يريدون لقضية جمال خاشقجي أن تنتهي قضائياً وفق مسارها العدلي والجنائي، ولذلك سيظلون في محاولة إخراج القضية من إطارها المفترض إلى إطار ومسار سياسي آخر يتبنى مصلحة السياسيين أنفسهم في الكيد للمملكة وابتزازها واستهداف قيادتها لأجل الحصول على مكاسب سياسية في قضايا أخرى خارجية أو داخلية أكبر من القضية نفسها!

الأمريكيون مثلاً ينظرون لقضية خاشقجي من خلال انتخاباتهم لمجلس النواب والشيوخ الأمريكي ومعركتهم مع ترمب وحلفائه السعوديين، ولذلك هم يستخدمون هذه القضية لحساباتهم الداخلية الخاصة، بينما الاتحاد الأوروبي مازال يعض أصابع الندم على العقود التي فقدوها في إيران بفعل تشديد الحصار على هذه الدولة المارقة وإلغاء الصفقة السيئة التي توسطوا فيها مع أمريكا أوباما.

وفوق هذا وذاك يتفق الجميع على أن السعودية مهمة ومؤثرة في كل الملفات الإقليمية والعالمية بطبيعة وزنها ومكانتها على كل الأصعدة، ومن جهة أخرى قد تتزايد قوتها بشكل منقطع النظير في العقدين القادمين خصوصاً مع وجود قيادة شابة تسعى لتحقيق رؤية 2030 في كل مجالاتها الاقتصادية والتنموية والعسكرية وبالتالي فكل القوى التي تعادي المملكة حتى في الخفاء ستحاول كبح جماحها وتصيد أخطائها متى ما أتيح لهم ذلك وموازنة مصالحهم معها بطريقة تكفل التأثير على قراراتها.

العقل السياسي السعودي بدوره يدرك كل الأجندة والأفخاخ التي ينصبها له أعداؤه، هذا الإدراك مكنه طويلاً من تجاوز كل الأزمات التي أرادت الإطاحة بوطنه منذ ستينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ولذلك بعد بيان النائب العام الذي وضع قضية خاشقجي في إطارها العدلي والجنائي الصحيح، كان ظهور وزير الخارجية الجبير رائعاً، وأيضاً تصريحات وزير الطاقة الفالح مهمة ومؤثرة، ثم كان الإصرار على عقد مؤتمر مستقبل الاستثمار في موعده وعدم تأجيله إشارة قوية على أن السعودية بثقلها وقيادتها الشابة لن توقف مشروعها وحلمها الرؤيوي والريادي في جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة جاذبة لكل العالم، وأن لا شيء سيثنيها على تحقيق هدفها، وأنها دولة تتشابك فيها مصالح الدنيا حتى إذا عطست أصيب العالم بالزكام! ثم جاءت اللحظة الفارقة وهي ظهور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بثقة وحسم أن السعودية قوية لا تتضعضع مهما كانت الحملات ومهما كانت الأجندة وأن المستقبل سعودي بامتياز.

السعودية أيضاً ستستخدم بعض أوراقها فيما لو أصر الأمريكان والأوروبيون على تدويل القضية وتسييسها خصوصاً أنها بدأت إجراءات التحقيق وتسجيل الاعترافات تمهيداً لمحاكمة المذنبين، ولذلك هي ستتسلح بالتأييد الرسمي لعمقها العربي والإسلامي، وبالإشارات الذكية إلى أن روسيا والصين حليفان في أتم الجاهزية لإمداد السعودية بما تحتاجه من صفقات عسكرية وتجارية وربما يكون هذا كافياً ولن تحتاج السعودية إلى اتخاذ إجراءات مؤلمة فيما يتعلق بسوق النفط والسندات بالدولار الأمريكي وسياسة الاستثمار الخارجي، وهي لم تستخدم بعد أوراقها الدبلوماسية ولم تقم بحملة مضادة لأنها تريد إبقاء القضية في مسارها العدلي، وتعول أيضاً على أن المواقف والإجراءات الرسمية في الأخير ستكون أكثر عقلانية مما هو موجود على ساحات الإعلام.

وفي الختام ليس لدي شك أن العقل السياسي السعودي يدرك تماماً ما يحاك ضده، وهم أرادوها عليه ضربة قاصمة وهو أثبت غير مرة طوال التاريخ نجاعته ونجاحه في الاستفادة من كل الأزمات والتهديدات التي واجهته، وقدرته على تحملها وتحويلها من تهديدات خطيرة إلى فرص كبرى للتعلم وللعبرة وسد الخلل والتوجيه والرد في الزمان والمكان المناسبين وتحقيق مزيد من النجاحات المستحيلة، يقول المهاتما غاندي إن «العظمة تتمثل في قدرتنا على بناء أنفسنا عندما نتعرض للإحباط»، والسعودية دولة عظيمة وقوية بقيادتها وشعبها أراد الله لها أن تكون كذلك وستتجاوز هذه الأزمة وذيولها وهي أكثر قوة وثقة بمستقبلها الزاهر بإذن الله.

* كاتب سعودي