-A +A
محمد مفتي
أثار المنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي بدأت المملكة في تبنيه مؤخراً ضغينة وأحقاد العديد من أعدائها في المنطقة، والذين حاولوا بكافة الطرق وشتى الوسائل تركيع المملكة أو حتى إثناءها عن المضي قدماً في خطاها تجاه التعامل بحزم مع أهم القضايا الداخلية والخارجية، ومع تجرع مرارة الفشل وإخفاق كافة الجهود لم تجد الدول المعادية وجيوش الظلام وسيلة تحقق بها أغراضها سوى حرب المخابرات، هادفة لتشويه صورة المملكة أمام الرأي العام الدولي، وحرب المخابرات ليست كما يظن البعض مجرد حرب إعلامية، يتم خلالها تسخير الآلات الإعلامية وحشد أبواق البث بمنابرها المتنوعة لحصار المملكة والضغط على نظامها، ولكنها في حقيقتها حرب شاملة هدفها استقطاب جميع رموز معارضي الدولة ومحاصرة المملكة من خلالهم، وتوجيه ضربة معادية لها من خلال حبك خيوط لمؤامرة ذات أبعاد إنسانية وحقوقية، ثم الترويج لها بشدة وبمختلف الطرق المنطقية وغير المنطقية.

عقب سقوط نظامي صدام حسين ومعمر القذافي ظهرت العديد من الكتب التي قام بتحريرها ضباط ومسؤولون في أنظمة الحكم في كلتا الدولتين، ولعله من المثير للدهشة أن يلاحظ القارئ مقدار الدموية التي أظهرها كلا النظامين عند تعاملهما مع المعارضين؛ حيث يلاحظ المتتبع لسيرة وتاريخ الرئيسين السابقين أن السلطات العراقية والليبية كانت تتعامل بغاية القسوة مع أسر المعارضين في الداخل، ولم تكن تتورع عن احتجازهم وتعذيبهم وابتزازهم بشتى الطرق حتى يعود هؤلاء المعارضون لبلدهم، لتقوم بمحاكمتهم كما يحلو لها، أما المعارضون في الخارج والذين كانوا يرغبون في التخلص منهم فكان يتم اغتيالهم بغاية السهولة، برصاصة يقل سعرها عن دولار واحد، في ظلمة الليل داخل أحد شوارع المدينة التي كان يقيم فيها هؤلاء المعارضون ويحتمون بها.


ولكن هل قامت المملكة يوماً ما بشيء مشابه؟ هل ثبت قيام المملكة من قبل بترصد ممن أسموا أنفسهم بالمعارضين أو اغتيالهم أو تهديد أسرهم؟ من المؤكد أن الإجابة هنا هي النفي، وأكبر دليل على ذلك هو اتباعها منهج المناصحة مع من هم أخطر من هؤلاء المعارضين، مع من انضموا لجماعات إرهابية في سوريا والعراق واليمن وغيرهم، وقد قدمت لهم الأمان شريطة العودة إلى جادة الصواب، وهو المنهج الذي اقتضى مناقشتهم وإرشادهم ومساعدتهم حتى يصلوا للطريق السليم، ولم يثبت إطلاقاً أنها قامت بقتلهم أو حتى تعذيبهم، والنتيجة هي أنهم الآن يعيشون في طمأنينة وسلام في كنف أسرهم بعد أن أوفت الدولة بوعدها تجاههم.

وإذا عرجنا على قضية الكاتب الصحفي جمال خاشقجي -الذي اختفى في تركيا- فإنه من المؤكد أنه لو كان لديه أدنى شك أو ارتياب تجاه قنصلية بلده لما ذهب إليها برغبته وعلى قدميه، ولو أرادت المملكة اختطافه أو قتله كما يزعم البعض فإن أبجديات العمل الاستخباراتي هو أن يتم ذلك بعيداً عن قنصلية بلاده، بدلاً من أن يتم الانتظار حتى يدخل القنصلية ثم يتم اختطافه أمام مرأى ومسمع العالم كله، وحتى يعلم الجميع أنه تم اختطافه وإخفاؤه من داخل القنصلية!

من الواضح أن اختفاء جمال خاشقجي هو نتاج عمل استخباراتي محض قامت به جهات كانت حريصة على عدم عودة المياه لمجاريها، وآلمها ذهاب هذا الكاتب بقدميه للقنصلية، «وربما» بعدما حاولت تلك الجهات توريطه في قضايا إرهابية ضد المملكة، ولكن فيما يبدو لم تعول هذه الجهة على حبك خيوط المؤامرة بقدر ما عولت على قوة ومهارة آلتها الإعلامية، التي أزاحت جميع أخبار العالم جانباً وتفرغت لهذه القضية فقط، بل وقامت بنسج سيناريوهات استباقية لسير الأحداث، والتأكيد عليها بإصرار واستماتة مثيرة لكافة أنواع الريبة والشك، وهو الأمر الذي يطرح بقوة التساؤل حول طبيعة المستفيد الحقيقي من اختفاء هذا الكاتب، وهنا يكمن السؤال.

* كاتب سعودي

mohammed@dr-mufti.com