-A +A
طلال صالح بنان
الأسبوع قبل الماضي شغلت الرأي العام الأمريكي قضيتا تحرش كبيرتان. الأولى كانت الحكم على الممثل الأمريكي الشهير (بل كازبي)، الذي اشتهر في الثمانينيات والتسعينيات، مسلسله الفكاهي (The Cosby Show)، بالسجن من 3 سنوات إلى 10 سنوات، عقوبة لتحرشه بعدد من النساء والاعتداء على بعضهن جنسياً.

أما القضية الثانية، فلها جانب سياسي حساس، لأنها تتعلق بمنصب رئيس في الحكومة الأمريكية، يتمتع صاحبه البقاء فيه، بإرادته، طوال حياته!؟ هذه المكانة السياسية والقانونية والتشريعية الرفيعة لعضو المحكمة الدستورية العليا، تتطلب مواصفات خاصة وحصرية شديدة الدقة والحساسية. في يونيه الماضي شغر أحد مقاعد المحكمة الدستورية العليا، بطلب أحد أعضائها (أنطونيو كنيدي) التقاعد. الأمر الذي يلزم الرئيس الأمريكي اختيار مرشح جديد تمهيداً لتثبيته من قبل مجلس الشيوخ. وقع الاختيار على (بريت كاڤانا)، الذي كان يعمل مساعداً للقاضي المستقيل.


من الناحية النظرية والإجرائية، لم يكن هناك، أي عقبات تذكر لتثبيت مرشح الرئيس ترمب، فمجلس الشيوخ الحالي يسيطر عليه الجمهوريون (51 عضوا جمهوريا، 47 ديمقراطيا، مستقلان). إلا أن فارق الصوتين ضئيل جداً، وقضية أخلاقية بخطورة التحرش الجنسي، كفيلة بأن تطيح بأي مرشح للمنصب، حيث يصعب الاعتماد على الانضباط الحزبي للأعضاء، في ظل هذا الفارق الضئيل جداً، هذا إذا ما استبعدنا الاستقطاب الحزبي الحاد الذي يمر به النظام السياسي الأمريكي، هذه الأيام.

من هنا: وجد مرشح البيت الأبيض مصاعب حقيقية، عندما تقدمت أكثر من سيدة باتهامه بالتحرش جنسياً، في فترة ما في الماضي. هذا التطور فتح الباب أمام الديمقراطيين، ليحاولوا تأجيل التصويت على مرشح البيت الأبيض، لعل وعسى يحدث «انقلاب دستوري»، ويسيطر الديمقراطيون على الكونجرس، في نوفمبر القادم... بل وحتى لانتخابات الرئاسة القادمة نوفمبر 2020. تشكيلة المحكمة الدستورية بها قضاة جمهوريون، يصلون إلى 5 من 9 قضاة، وإذا نجح الجمهوريون في تعيين قاض جديد، فإن تمثيل الديمقراطيين في المحكمة الدستورية يهبط إلى الثلث... الأمر الذي يعتبره الديمقراطيون هيمنة عَدْلِية للجمهوريين، قد تؤثر لأجيال على قضايا حساسة مثل: الإجهاض.. وحقوق المثليين والأقليات والمرأة والسكان الأصليين.. وانتشار السلاح، التي كثيراً ما يحسم الجدل حولها عن طريق المحكمة الدستورية العليا.

يوم الخميس والجمعة قبل الماضيين اجتمعت اللجنة القانونية في جلسة استماع تمهيدية لتقرير مصير إرسال القاضي كاڤانا لمجلس الشيوخ، للتصويت النهائي. كان الحدث الأبرز، في ذلك الاجتماع، الاستماع لمرافعة السيدة (بلازي فورد)، التي اتهمت القاضي كاڤانا بأنه حاول الاعتداء جنسياً عليها، عندما كان الاثنان في حفل بالمدرسة الثانوية.. ونظرا لأن الاعتداء لم يتطور إلى اغتصاب، فإنها آثرت حينها السكوت. لكنها عندما علمت بترشيح القاضي كاڤانا لمنصب بالمحكمة الدستورية، رأت أن من واجبها الوطني أن تثير القضية من جديد، لأن منصبا بهذه الرفعة والمكانة والجلال، يجب ألا يشغله «ذئب بشري». القاضي كاڤانا، من ناحيته نفى ادعاء السيدة فورد.. وقال إنها وشاية مغرضة من قبل اليسار، لعرقلة تعيينه.

المشكلة في جلسة الاستماع تلك التي استمرت يومين، كان التركيز على الخلفية الأخلاقية لجريمة التحرش، أكثر من فحص الأهلية المهنية والعلمية ومدى ملاءمة كاڤانا ليكون قاضياً في المحكمة الدستورية العليا. في حقيقة الأمر: نجد أن قضية التحرش الجنسي غلبت على نقاشات اللجنة، بصورة غطت على قصور مهني وسياسي وسلوكي، في شخصية القاضي كاڤانا، كان كفيلاً في الحالات العادية، توصية اللجنة بعدم أهليته للمنصب. لقد ظهر القاضي كاڤانا حاد الطباع.. غير قادر على السيطرة على انفعالاته.. كما ظهرت ميوله الحزبية المحافظة، بصورة جلية ومستفزة، تشكك في نزاهته الموضوعية.. كما لم يخف عداءه السافر لليسار (الديمقراطيين)، بصورة تشكك في قدرته على صياغة أحكام تنحاز للعدالة، لا إلى ميوله السياسية وقيمه الأيديولوجية المفرطة في محافظتها.

بعد سجال بين الديمقراطيين والجمهوريين، قبل الطرفان اقتراحا من قبل السيناتور الجمهوري (جيف كلايف)، بأن يوكل لـ(إف بي آي)، مهمة النظر في تهمة التحرش التي رفعتها السيدة فورد، للبت فيها خلال أسبوع، قبل إرسال ترشيح القاضي كاڤانا لمجلس الشيوخ، بكامل هيئته. يوم السبت الماضي تثبت القاضي كاڤانا من قبل مجلس الشيوخ بفارق صوتين (50 - 48)! مهما قيل ويقال عن حدة الاستقطاب الحزبي التي سيطرت على سلوك أعضاء مجلس الشيوخ، على تحري التجرد والموضوعية، دعماً للعدالة، في أكثر المناصب رفعة في الحكومة الأمريكية، إلا أن المرء، من خلال متابعة تلك النقاشات على الهواء مباشرة، ليس بوسعه إلا أن يحترم حركة الديمقراطية، وهي تتجلى بكل شفافية وانفتاح، أمام الجميع وعلى الهواء مباشرة، في ما يشبه المحاكمة السياسية لقضية تحرش، مكانها الطبيعي ساحات القضاء.

التحرش، ليس فقط جريمة قانونية لا تسقط بالتقادم، بل هي أيضاً، في حال ثبوتها: جريمة سياسية، عقوبتها ليس السجن أو الغرامة... بل أشد: الخروج النهائي والمخزي من الحياة العامة، وليس فقط الحرمان من تقلد المناصب العامة الرفيعة.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com