-A +A
عبداللطيف الضويحي
ظلت مجتمعات المملكة وفيّةً لترابطها المحلي اجتماعيا واقتصاديا عبر التاريخ من خلال القبيلة و«الجماعة» و«القرية» والثقافات المحلية بشكل أو بآخر.

البعض من السعوديين لم يترك مدينته أو قريته إلا مضطرا إلى مدينة أخرى بدافع البحث عن العمل أو أي مصلحة أخرى خاصة في المدن الكبيرة، لكن هؤلاء لا يلبثون يتحينون الفرصة وينتظرون العودة لمدنهم وقراهم عندما تتوفر لهم فرصة العمل فيها أو حتى بعد التقاعد. وهذا في ظني فطرة طبيعية في المجتمعات المحافظة.


أما في بعض المجتمعات الحديثة، فيولد الشخص في مدينة ويدرس الجامعة في مدينة ثانية ويتزوج ويعمل في مدينة ثالثة داخل البلد الواحد وهذا نمط شبه نادر إن وجد لدينا. فالغالبية منا تولد وتتعلم وتتزوج وتعمل في مدينة أو قرية واحدة.

في الأسبوع الماضي دشن خادم الحرمين الشريفين قطار الحرمين الشريفين السريع بين المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة مرورا بعروس البحر الأحمر جدة. وهذا القطار بدون أدنى شك يمثل قيمة حيوية لنقل الحجاج والمعتمرين بالإضافة لسكان المدن التي يمر بها هذا القطار، ناهيك عن قيمته التجارية والبيئية والعملية. فهو يعمل بطاقة نظيفة ستسهم بيئيا ويقلص المسافة إلى النصف، وحيث التقديرات تشير إلى أنه سينقل سنويا 60 مليون راكب تقريبا، وهذا سيكون له أثر بالغ على تقليص عدد الحافلات وبالتالي الإسهام بنظافة البيئة.

قطار الحرمين الشريفين هو واحد من عدة قطارات تعمل حاليا في العديد من مناطق المملكة أو ستعمل قريبا لنقل الركاب أو لنقل البضائع في المنطقة الوسطى والشمالية والشرقية وغيرها. إضافة إلى شبكات المترو التي من المنتظر أن تعمل في مدينة الرياض ومدينة جدة عن قريب بإذن الله، والتي سيكون لها أثر بالغ ومردود اقتصادي على عدة أصعدة، ناهيك عن مردودها الاجتماعي والثقافي المباشر وغير المباشر.

لقد لجأت كثير من الدول بعد استقلالها منتصف القرن الماضي إلى إقامة سكك الحديد، كخطوة لتوحيد أقاليمها وشعبها. لذلك تعد حركة النقل والمواصلات ومنها القطارات بين المدن والأقاليم محركا جوهريا في تقريب السكان بعضهم ببعض وتعظيم مصالحهم المشتركة وتوسيع ارتباطاتهم الاقتصادية ونقل موروثهم الثقافي فيما بينهم. ناهيك عن تذويب مشكلات كل مجتمع محلي بحلول غير محلية.

نحن في المملكة رغم كل الروابط الأخوية ووشائج القربى بين سكان المملكة، ما زالت بعض مجتمعاتنا تكتفي في البحث عن حلولها محلية لمشكلاتها المحلية فقط، ولم تنجح في كسر الحاجز النفسي بتجاوز المحلية في البحث عن حلول غير محلية حين تتعذر الحلول المحلية، ربما كان ذلك نتيجة انكفاء كل مجتمع محلي من تلك المجتمعات على نفسه في عزلة ثقافية عن بقية المجتمعات بوعي الأهالي أو بدون وعيهم وربما بسبب هيمنة ثقافة «الجماعة» وتقاليدها وعاداتها على زمام الأمور وانسداد الأفق وعدم المبادرة بإيجاد حلول عابرة للمحليات السعودية.

هذا الواقع جعل مشكلات كل مجتمع خاصة به، وهذا فاقم حجم بعض تلك المشكلات بسبب البحث عن حلول محلية ضيقة لا تتجاوز نطاق الجماعة أو القرية في كل مجتمع على حدة.

لا أملك إحصاءات ولا أتنبأ، إلا أنني على يقين بأن مشكلة العنوسة في منطقة حائل أو المدينة المنورة على سبيل المثال، لا يمكن حلها في منطقة حائل أو المدينة المنورة فقط، ولا يمكن البحث عن حلول لمشكلة الطلاق في منطقة نجران أو في منطقة القصيم فقط داخل منطقة نجران أو داخل منطقة القصيم، كما أنه لا يمكن البحث عن حل لمشكلة البطالة في الجوف أو في منطقة عسير من خلال البحث داخل منطقة الجوف أو داخل منطقة عسير.

لذلك من المهم وبعد أن تسود ثقافة القطارات في المملكة في تحريك السكان خارج محلياتهم الحالية، ومن نافلة القول أن يؤخذ بالحسبان الهجرة السكانية بين مدن القطارات الناشئة نتيجة للحلول العابرة للمحليات السعودية. وعلى المخططين لدينا أن يأخذوا بالحسبان هذا الهدف ضمن الأهداف الكثيرة التي تحققها مرحلة القطارات التي تتطلع لها الأجيال في الحاضر والمستقبل. لما ستحدثه حركة القطارات من تحريك للمجتمعات السعودية وربما الهجرات الداخلية تبعا للتحديات والفرص.

لست شخصيا من أنصار تقويض الأسرية والعائلة أو إضعاف روابطها، فالأسرة أهم مؤسسة بشرية وهي المحرك الفعلي للأفراد ولست من أنصار تذويب الثقافات المحلية لأي مجتمع مهما بلغ حجم سكانه، لكن الامتدادات الاجتماعية القبلية والمناطقية والعشائرية أفرزت الكثير من المشكلات المحلية التي يستعصي حلها بنفس الدرجة من المحلية وتسببت تراكميا بإيجاد ثقافة سلبية استسلامية «ليس بالإمكان أفضل مما كان».

فمن المتوقع أن تكون الزواجات العابرة للمحليات السعودية، كفيلة بتقليص أعداد الطلاق وهدم جدران العنوسة وخلخلة أعمدة البطالة.

* كاتب سعودي

Dwaihi@agfund.org