-A +A
حمدان العسكر
من الصعب تجاوزه، ذلك النحيب الذي لم يزل يجر خطاه في أذني دون أن ينتهي به الصدى: خذوه، خذوه!

بإمكاني أن أتوقع عمر صوتها الباكي، فهو يقارب الستين أو يجاوزها بقليل، موهنٌ ومتقطِعٌ وضعيف.


حين أعدتُ سماعة الهاتف لمكانها، كنتُ أشعر أن جدران الغرفة تدور بي، فأغمضتُ عيني في الحال، بقي السواد يموج به وأنا عائدٌ بجسدي إلى الكرسي لعل هذه الدوامة تستقر.

عندما هدأتُ قليلًا، وقلّ الضغط الذي كنت أحسه داخل رأسي، أمرتُ باستدعاء الرجل، لم أتفاجأ حين رأيته، كان شابًا في العشرين، مبعثر النظرات، مخطوف التركيز، في أطراف أصابع يديه رعشة حاول ضبطها ما أمكنه!.. حاولت استنطاقه، لكنه كان يرى في الصمتِ جوابًا لكل الأسئلة التي أطرحها أو تلك المحتملة، وفي الحقيقة لم يكنْ لدي جلَدٌ كبيرٌ لأبقيه في حيز الجدال، فأمرتُ باحتجازه حتى الغد لعل التفاصيل تتجلى من تلقائها.

مرّت الأيام دون أن يجد جديد وبعد 10 أيام سمعتها مرة أخرى، كان في صوتها تمايز عن البقية، حين رأتني تقدمتْ إليّ، في خطوها قوة تنافي ضعف صوتها الستينيّ الذي سمعته، لما رأى الحارسُ سيرها نحوي بخطى حثيثة نهرها بصوتٍ جهْوري، فأومأت له بأن يدعها، فليس علينا أن نجمع على الضعيف مصيبتين، أو أن نضاعف عليه مصيبته!

فتحتُ لها الباب وأشرت لها أن تدخل، وأدبًا منها لما تجلس على الأريكة حتى فعلت، وفي حزن قاتم ووحشة عميقة: اضطررنا لفعل ذلك، تعبنا!

نظرتُ لها دون محاولة التأنيب أو الإشفاق، مما جعلها ترفع الحرج قليلًا: تغير ولدي من سنوات قليلة، لستُ أدري أي مسلك أخذه إلى هذه الهاوية، قبل أشهر تشاجر من إحدى أخواته أدى ذلك لكسرٍ في ذراعها، مع كدماتٍ زُرق علت شيئًا من جسدها، كل ذلك لأنها رفضت أن تعطيه شيئًا من حصتها من ميراث والدها.

تنهدت وهي تفرك أصبعًا بإصبع، وعادت لتقول:

بعد أيام ولأن أخته الأخرى أبت أن تُقاسمه مرتبها الوظيفي، فقد صبّ جام غضبه على قطع الأثاث الجديد ليُحيل الغرفة لفوضى وخراب.

بلعت ريقها لتبلل به الجفاف الذي طال حلقها، ثم رمقتني وأطرقت:

حتى خواتمي التي أضعها على إصبعي لطارئ؛ طالتها كفه السارقة.

قاطعتها:

هل عرضتم حالته على خبير أسري، أو معالج اجتماعي؟

صمتتْ هنيهة يسيرة ثم قالت:

الناس لا تتقبل ذلك، ماذا سيقولون عنا؟

ابتسمتُ ابتسامة الساخر، يا للمساكين الذين لا يستطيعون العيش بمنأى عن ألسنِ الناس وأعينهم، غير أني سألت بعد أن جف التبسم:

وماذا سيقولون عنكم الآن؟!.. وأكملت كي لا تُجيب:

اسمعي يا خالة: الناس لن تعيش معكم، وهي لم تذق مأساتكم معه، ولم تبادر للإصلاح..

الناس يا خالة مجرد أعين تبحثُ عن السقطات، وتنقب عن الخطايا، وأنتم إن أحسنتم أو أسأتم لن تجدوا من ألسنهم وأعينهم إلا الأذى، ثم لا أحد يدري إلى أي مدىً ستطول يداه بعد، وأنتم وحدكم من ستطؤون جمرة أفعاله.

مسحت بيدها المتجعدة دمعةً فرّت من محجرها، ثم لجأت للصمت في عادة، نادرًا أن تلجأ لها النساء.

أحسستُ أن الغرفة مخنوقة، كما وأن الهواء بدأ ينفد منها، فأرسلتُ نظري للرقيب الذي كان يقف على مقربة الباب، وقلت له:

اخرجوا لها ولدها.. ثم وجهتُ الحديثَ إليها:

يا خالة إذا عاد ولدكم ولو بطلب منكم، فلن يخرج حتى يأخذ عقابه كاملًا..

ذهب الرقيب وذهبت السيدة العجوز من خلفه، تلملم خوفها وحنانها وشفقتها على ابنها، وعاد الضعف لخطواتها مواسيًا لضعف صوتها الذي سمعته.

hemam7@hotmail.com