-A +A
يحيى الامير
أدت التحولات الاقتصادية الضخمة التي تمر بها المملكة إلى ما يشبه عمليات الفرز الحقيقية لمجتمع الأعمال والتجارة، لنصبح اليوم أمام مستويين من الاستثمار: الاستثمار الربحي والاستثمار التنموي.

يقوم الاستثمار الربحي على أنماط تقليدية من التجارة تعتمد على قوتها المالية وعلى أهمية البضاعة التي تتاجر بها، وتهيمن عليها التقليدية والثبات ولا تحمل أية أفكار جديدة، بل قد تتحول أحيانا إلى عنصر إعاقة للتنمية العامة، خذ تجارة الأراضي مثلا والتي وإن كانت صالحة لمرحلة إلا أنها بالتأكيد لا يمكن لها الاستمرار. وبالنظر إلى كون الأراضي مكونا من مكونات الإنشاء والبناء سواء للمنزل أو المدرسة أو المصنع، فإن استخدام أحد تلك المكونات وتحويله إلى منتج من شأنه أن يقضي على كل العملية ويعيق اكتمالها. وحين تم إقرار نظام رسوم الأراضي البيضاء كان الغرض الأبرز منه تحويل تلك المساحات الهائلة من كونها عناصر اقتصاد مهملة ومعطلة لتصبح عناصر منتجة.


الاستثمار التنموي يختلف عن كل ذلك؛ يحمل الاستثمار التنموي قيما جديدة في داخله وفي أدواته ويرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بمعادلات التنمية الوطنية وأهدافها، ويقوم الاستثمار التنموي على بعدين هما: الأفكار الجديدة التي تتحول إلى أنشطة استثمارية واقعية، وأعمال التطوير والابتكار في الأنشطة الاستثمارية القائمة والمعروفة. تطوير وابتكار على مستوى الأفكار والأدوات سعيا للجودة الأمثل والتكلفة المناسبة والقدرة على التطور المستمر.

الأنظمة والتحولات والتشريعات الجديدة التي تشهدها المملكة اليوم تمثل داعما حقيقيا وفعليا للاستثمار التنموي وتعزز من أهميته ودوره المستقبلي والمحوري في كل معادلات التنمية.

ويمثل دعم القطاع الخاص رهانا حقيقيا للرؤية السعودية وبرامج ومبادرات التحول الوطني، هذه التوجهات الجديدة بحاجة لأن يكون القطاع الخاص جديدا كذلك وقادرا على المواكبة.

تطبق الدولة ذلك المبدأ على خدماتها؛ التحول من الريعية إلى الإنتاجية، فالخدمات الصحية والتعليمية مثلا ظلت لسنوات لا تعكس واقع الاقتصاد السعودي ولا قوته، وتقدم خدمات أقل مما يجب وبشكل أكثر تراجعا في المحافظات والمدن البعيدة عن المراكز، وما يحدث اليوم من عمليات تطوير واسعة في تلك القطاعات ينطلق أولا من الخروج بها من الريعي إلى الإنتاجي وفق معايير وضوابط تسهم في رفع مستوى جودة الخدمات المقدمة.

ظلت القطاعات الحكومية لسنوات هي العميل الأبرز للقطاع الخاص في كثير من الأنشطة، وحين أعادت الدولة ترتيب تلك المعادلة تراجعت كثير من الشركات وخاصة في قطاعات التوريد وقطاع المقاولات والإنشاءات. والعلاقة الجديدة اليوم هي علاقة شراكة يصبح فيها القطاع الخاص الجديد مؤهلا بأفكاره الجديدة وقيمه المُضافة لتحقيق تلك الشراكة.

هنا يمكن القول إن الاستثمار الأنسب للمستقبل هو الاستثمار التنموي؛ خلق أفكار وأنشطة جديدة وإعادة بناء الأنشطة القديمة، والتركيز على المحتوى المحلي.

ربما لأول مرة يشهد الاقتصاد السعودي هذا التركيز على المحتوى المحلي وهذا التوجه الفعلي لجعله محورا فاعلا في خطة التحول، ويضم مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وحدة خاصة هي وحدة المحتوى المحلي وتنمية القطاع الخاص (نماء) وتعرف الوحدة المحتوى المحلي كالتالي:

«هو إجمالي الإنفاق في المملكة العربية السعودية على العناصر السعودية سواءً القوى العاملة، أو السلع، أو الخدمات، أو الأصول، أو التقنية»، وبالتالي زيادة إسهام العناصر المحلية على مستوى الأفكار والقوى العاملة والابتكارات في مختلف معادلات الاقتصاد السعودي.

الأنشطة التجارية التقليدية مثل محلات التجزئة التي تنتشر على امتداد الشوارع وتمثل محضنا للتستر وتتراجع فيها مستويات الجودة ولا تحمل أية إضافة اقتصادية في الغالب لن تتمكن من الاستمرار، ومختلف التنظيمات الجديدة وأنظمة العمل والتجارة ومكافحة التستر كلها ستساهم في إعادة توجيه هذا الواقع ليصبح أكثر تطورا وجدوى.

الإبداع الاستثماري هو الرهان المستقبلي الحقيقي وهو القادر على الاستفادة من كل المقومات الجديدة والتحولات الاجتماعية التي نعيشها اليوم؛ إبداع الأفكار الجديدة وإبداع الأفكار التطويرية نحو التغيير.

أكثر ما يدعو للتفاؤل اليوم حين تستمع إلى شخصيات اقتصادية عملت طويلا في استثمارات تقليدية ولكنها لم تظل حبيسة تلك المرحلة، وتتحدث اليوم بكثير من التأييد والدعم لكل التحولات الاقتصادية الجديدة وتسعى لتطوير وإعادة بناء أنشطتها بكل حماس.

لكن يشعر التجار التقليديون اليوم بكثير من الغربة وتكتظ مجالسهم بأحاديث التأفف من التحولات والأنظمة والرسوم، لا بأس فلقد أدى ذلك الجيل دورا مهما في السابق وعليه اليوم إما أن يتغير أو أن يسلم الدفة لجيل جديد.

* كاتب سعودي