-A +A
حمود أبو طالب
عندما تكون الأماكن حميمة، تكون الذاكرة حادة ومرهفة وغير مهادنة، تشتعل فيها أدق التفاصيل، وتلتهب فيها حتى اللحظات العابرة، كل شيء يصبح مهماً في تلك الأماكن، كل شيء، حتى صدى الخطوات، ورجع الأنفاس، وعطر الهمسات. لكنها حالة مختلفة عندما تخطو على دروبها وكأنك تتفادى الخطو على ألغام الوجع، وجع الذكريات التي تتحاشى انفجارها في روحك وتحولك الى أشلاء.

والأسوأ من ذلك، عندما تشعر بخيانة تلك الدروب، وعندما تعاتبها تقول لك لست أنا من خانك، لكنها الأقدام التي كانت ترقص معك وأنا أحتفي برقصها، هي التي اختارت قدمين غير قدميك، وذراعا غير ذراعك، وأغنية غير أغنيتك، وإيقاعاً غير إيقاعك، هي التي داست على خطوات قلبك، ولو أردتني شاهداً لفضحتها وقلت لها كم كان خطوك نشازاً مع غيره، وقبيحاً ومؤذيا بشكل غبي، رغم أني تحملت ملايين الخطوات الخائنة بكل ما فيها أذى للتراب الذي تمشي عليه.


متعب جداً أن تتقزز من الأماكن التي كنت تعشقها، والمشاهد التي كنت تتلذذ بها، ومؤلم جدا أن تبصق على الزوايا التي شهدت لحظاتك الأسطورية، ومقرف جداً أن تشعر بالغثيان في ذات الدروب التي كنت تنتشي فيها بالعطر.

كانت وردة تُسقى بندى القلب، وتغطيها غلالات الوله الشفيف، تمشي على بساط النبض الرهيف، ويحيطها سياج من شغف الروح. لكنها قررت في لحظة شيطانية أن تنزع جذورها وتغرسها في حظيرة لا تنمو فيها غير الميكروبات والأوبئة، تربة منتنة لوثتها وخسفت بكل ما كان فيها من جمال.

عذراً أيتها الأماكن التي كان القلب يهفو إليها، ويصارع اللحظات ليبقى فيها، أشعر بوجع شديد حين أقترب منك. سوف أدفنك في ذاكرتي إلى الأبد.