-A +A
عبدالفتاح أبو مدين
• إنه عنوان ومقال لكاتب فارع في لغتنا العربية البليغة الناصعة والشامخة في بيانها ونصاعتها وعمقها عبر تاريخها الناصع القويم !

إن مقال الكاتب البليغ الطلعة الأستاذ حسن الزيات المصري وصاحب مجلة الرسالة التي كانت تصدر في مصر لسنين ثم توقفت بعد زمن طويل بلغ 25 خريفاً بدواعي الضريبة التي لم يستطع صاحب الرسالة أن يُجاري تلك الضريبة التي لم تتح لتلك المجلة القوية ببلاغة أولئك الرواد في مصر ومشاركة آخرين من البلاد العربية لشموخ لغتنا التي ملأت أصقاع الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه فخسرت الأمة العربية مطبوعة يملأ صفحاتها كتاب عباقرة في سنين طوال ! وكان العهد الذي بدأ من عام 1952م، ليس عهد معرفة ولا ثقافة وإنما زمن مختلف عن سابقه فتخلفت الثقافة وانطوت صفحاتها وأظلمت أيامها ! وهكذا الحياة أغيار، حيناً إلى التقدم والرقي، وحيناً آخر إلى التخلف وانحدار إلى الوراء !


• أمامي موضوع عنوانه: «الشاعر الفارس» لأستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة التي عاشت زمنها الزاهي الطموح وفي ساحة الفكر رجال كبار لا في أعمارهم وإنما هم أعلام عمالقة كانوا رواداً ثم دارت الأيام وكدت أقول: اختلاف النهار والليل ينسي كما قال الشاعر ! والشاعر الذي عناه كاتبنا الزيات هو: «أبو محجن الثقفي» من سروات ثقيف، درج في الرياض والطائف ونشأ على فتوة أهله وصبوة شبابه فهو كما قال كاتبنا الزيات: «مسعر حرب، وصنّاجة شعر، وصنو مروة، كذلك كمي فاتك». وقال كاتبنا البليغ الماهر: «كانت مدن الحجاز الثلاث: مكة والمدينة والطائف، مظهر الفتوة العربية، لأنها مجمع السيادة ومنبع الرفاهية والثروة». وكما نقرأ في التاريخ أن أبا محجن هرب من عقاب الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاقرة الخمر مضى إلى فاتح العراق، إلى القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ذلك خلال يوم الكتائب من أيام القادسية، غير أن كتاب عمر كما قال الأستاذ الزيات سبقه إلى سعد، يأمر فيه بحبس الشاعر ساعة يقدم عليه ! ونقرأ عن الحرب التي دارت بين العرب والفرس، وأبو محجن مقيّد في قصر القائد، فما كان يسمع رغاها، حتى عصفت النخوة في رأسه، وثارت الحمية في نفسه واضطرب في حبسه اضطراب الأسد في قفصه، ثم زأر بهذه الأبيات على مسمع من سلمى زوج سعد:

كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا

وأترك مشدوداً عليّ وثاقياً

إذا قمت عناني الحديد وغلّقت

مصاريع دوني قد تصم المناديا

هلم سلاحي لا أبالك إنني

أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

ولله عهد لا أخيس بعهده

لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا

ثم قال: يا سلمى هل لك في خير إليّ ؟ فقالت وما ذاك ؟ تخلين عني وتعيرينني البلقاء، (فرس سعد)، فلله عليّ إن سلمني الله، أن أرجع حتى تضعي رجلي في القيد.، فترددت سلمى حتى تبيّنت الصدق في قوله فأطلقته، وركب أبو محجن البلقاء، ثم دب عليها، حتى إذا تنفس الصبح، وأشرق يوم الرماة واصطف الناس، حمل على مسيرة العدو وحمله صادقة، فانخلعت لها القلوب، وانخزعت عنها العيلة، وتضعف أمامها الفرس، وعجب العرب أن يكون فيهم هذا الفارس ولا يعرفونه، حتى قال أحدهم: إن كان الخضر يشهد الحرب فهو صاحب البلقاء، وقال آخر لولا أن الملائكة لا يقاتلون ظاهرين، لقلنا هذا ملَك.. وجعل سعد يقول وهو يشرف على المعركة: الطعن طعن أبي محجن، والضّبر ضبر البلقاء ولولا أن أبا محجن في محبسه لقلت إنه هو !

وكانت سلمى قد رأت فعله، وسمعت قوله فأعجبت بإبائه ووفائه وبطولته، ثم دخلت على سعد، وكانت مغاضبة له، فصالحته وأخبرته بخبر أبي محجن، وسألته أن يطلقه، فاستخف سعداً ما رأى من فتوة أبي محجن ورضا زوجته، فدعاه وقال له، وهو ما يزال في حماسه ونشوة الغبطة: والله لا أحبس بعد اليوم رجلاً نصر الله والمسلمين على يديه هذا النصر ولا أعاقبه إذا شرب فقال له أبو محجن، وقد بدت على محياه سمات النبل ودلائل المروة، وأنا والله لن أذوقها بعد الساعة.. لقد كنت أشربها أنفاً من أن يقولوا خاف الحد، فأنا اليوم أتركها رغبة في أن يقولوا خاف الله..

* كاتب سعودي