-A +A
نجيب يماني
الشريعة الإسلامية اتسمت بالشمول والعموم والخلود، ولا يعني ذلك أن الشريعة نصت على كل حكم وعلى كل واقعة وحدث بعينه، فهي جاءت بالمبادئ العامة والقواعد الأساسية والخطوط العريضة، لتندرج تحتها كافة القضايا والمسائل التي تستجد لتغير الأزمان والعادات والأعراف، وليس هناك من هو أحوج منا إلى الأخذ بهذه المبادئ وتطبيقها في وقتنا الحاضر، لذا كان الاختلاف في المسألة الواحدة رحمة وسعة ووضع مشقة عن الناس، يقول ابن تيمية (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة). وصنف رجل كتابا سماه (الاختلاف) فقال له الإمام أحمد سمه كتاب (التيسير)، وقال الخليفة عمر بن عبدالعزيز ما سرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنهم لو أجمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. ويؤكد ابن تيمية أنه (لا ينبغي لمن نشأ على مذهب معين أن يلزم الآخرين به، ولا يصح أن يقول يجب عليكم أن تفتوا بمذهبي، وأن أي مخالف لمذهبي كان باطلاً)، وعندما عزم هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما جاء في (موطأ مالك) من الأحكام منعه مالك نفسه، وقال له إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. فاختلاف وصول الأحاديث لأهل الاجتهاد هو أحد أبواب الاختلاف الذي سنه رسول الله لأمته حتى قيام الساعة، حتى بعد وصول الحديث إليهم فإنه قد لا يثبت لديهم على أصوله، ولو ثبت فقد لا يحتوي على وجه الاستدلال، وإن احتواه فقد يكون معارضاً بمثله أو بما هو أقوى منه. فالخلاف بين أهل العلم بل بين الصحابة قائم منذ أيامهم، فقد دربهم (معلم الإنسانية الخير) على الاجتهاد، فالفتوى في المسألة الواحدة إذا صدرت من أحدهم فهي غير ملزمة، وإنما يأخذ بها من شاء أو يأخذ بغيرها إن كان ذلك أسهل له، (فلو اختلف على العامي مجتهدان فأفتاه أحدهما بحكم والآخر بحكم غيره خيّر في الأخذ بأيهما شاء). واعتاد الإمام أحمد أن يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها ويجيز له الأخذ بأيهما شاء، حتى أقوال الصحابة إذا اختلفت لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر ولا على غيره من الناس من بعده، فقد اختلفوا في جواز أكل المُحْرِم من لحم صيد البر، فحرمه علي وابن عمر وابن عباس وعائشة، معتمدين على حديث رسول الله «أنه أهدي إليه حمار وحشي وهو بالأبواء فرده وقال إننا حرم»، وحلله عثمان وطلحة وغيرهما، معتمدين على حديث رسول الله لرجل من بني غفار سأله الطعام فقال للقوم (كلوا) وهم محرمون، كما اختلف الصحابة في نزول المحصب بعد النفرة من منى، فقال البعض إنه سنة من سنن الحج لنزول رسول الله وصاحبيه بالأبطح، وقال آخرون إن نزوله كان على وجه الاتفاق وليس بسنة، فقد روت عائشة أن نزول رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمحصب ليكون أسمح لخروجه وهو ليس بسنة، فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل. كما أن الرمل في الطواف اعتبره البعض سنة، وقال آخرون إنه ليس بسنة لانتهاء الرمل بذهاب سببه، فقد فعله رسول الله حتى يثبت للمشركين أنهم أشداء لم ترهقهم حمى يثرب كما ادعوا على المسلمين، حتى في حجة وداعه قال البعض إنه متمتع، وبعضهم رجح أنه كان قارنا، وآخرون قالوا بإفراده، فقد حصلت في حجه عليه الصلاة والسلام أعمال كثيرة وقع الاختلاف فيها بسبب الوهم من بعض الصحابة، منها دخوله جوف الكعبة وصلاته فيها، ووقوفه عند الملتزم، والإسراع في وادي محسر، وإفاضته كل يوم من أيام منى إلى مكة يطوف ويعود إلى منى، وأفعال أخر وقع الاختلاف فيها، فمتى وقع الاختلاف امتنع الإنكار، حتى رمي الجمرات كان محل اختلاف، فيجوز للحاج رميها قبل الزوال وبعد الزوال، ويقول أحمد في رواية له يجوز الرمي يوم الثاني عشر، قبل الزوال، وقد رجح بعض الصحابة الرمي بالليل دون عجز أو مرض رفقاً بأنفسهم ونسائهم وأطفالهم. كما أجاز أبو حنيفة الرمي يوم النفر من منى في الصباح وحتى الليل، كما أجاز الرمي قبل الزوال في الأيام كلها، وعلى مدار الساعة، وكما ذهب بعض الصحابة إلى جواز استدامة الطيب بعد الإحرام، تقول عائشة كنت أطيب رسول الله بأطيب ما يجد ثم أرى وميض الدهن في رأسه ولحيته، وذهب ابن عمر إلى تحريمه ومنعه اعتماداً على نص أن رجلا محرما أتى رسول الله متضمخا بطيب فقال له الرسول أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات. وقد كان الناس في عهد الصحابة يأخذون ويتركون ما شاءوا من فتاوى من غير نكير من باب اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة، وكانوا يعللون الأحكام بالمصالح ويفهمون معانيها ومراميها. فالإسلام لم يدع المجال لصاحب هوى أو مبتدع أو جاهل يقول في الدين بغير علم أو يدخل فيه ما ليس منه، وقد عانينا كثيراً في ما مضى من التشدد والرأي الواحد وإلزام الناس به دون دليل إلا التحكم والهوى، فالحمد لله الذي أعادنا إلى إسلامنا المتسامح، وألجم كثيرا من الأفواه التي كانت تزعق برأيها ولا تقبل بأي رأي آخر.

* كاتب سعودي