-A +A
بشرى فيصل السباعي
عبر العصور أجرى العلماء والفلاسفة والمفكرون أنهارا من الحبر لبحث ماهية الحياة الدنيا، ونتائجهم يمكن اختزالها بمشهد واحد؛ ادخل لمحل ألعاب تعليمية للأطفال وتمعن بماهية الألعاب، وستجدها تصويرا رمزيا عن الشيء الحقيقي لتنمية وتطوير وعي الطفل عبرها، وبالمثل هي الحياة الدنيا؛ فالحياة الدنيا ليست مسرحا، وليست ساحة صراع ومعركة وحرب، وليست جنة ولا جحيما، إنما هي مدرسة وكل ما فيها من قوانين وأحوال ومادة هي وسائل تعليمية غايتها تنمية وتطوير درجة ونوعية وعي الإنسان الفكري العاطفي القيمي الأخلاقي السلوكي الروحي الجوهري؛ لأن غاية الله من خلق كائنات عاقلة ووضعها في هذه المدرسة هو أن يكرسوا ذواتهم على الوعي المعقد الأعلى الذي يمكنه أن يعي حقيقة الذات الإلهية حق الوعي.

لكن الذي يحصل للناس له مثال ما حصل لأهل صحراء نازكا جنوب البيرو حيث توجد رسوم هائلة معقدة محفورة على أرضيتها القاحلة يمتد الواحد منها لمسافة تصل لمئات الأمتار، وأهل تلك المنطقة عاشوا عليها لمئات السنين دون أن ينتبهوا لأن ما تبدو بالنسبة لهم فقط مجرد خطوط ممتدة على مد النظر هي بالواقع تشكل رسومات متكاملة لا يمكن تمييزها على الأرض، ولما قام الأوربيون بالتحليق بالطائرة فوقها ظهرت الأشكال الكاملة التي تشكلها تلك الخطوط، وهذا مثال بليغ لحال البشر في الدين والدنيا؛ فبسبب كونهم مستغرقين بتفاصيل الأحوال على الأرض ولم يطوروا وعيا جوهريا محايدا يمكنه أن ينظر لذات صاحبه ويقيمها ويحكم عليها عن بعد كما يفعل تجاه ذات أي شخص غريب، فهم لا يمكنهم استيعاب الصورة الأكبر الكاملة لذواتهم ولا لحياتهم ولا للواقع وللعالم ولا في أي مجال، والإنسان ليطور ويكرس وعيا فكريا نفسيا عاطفيا قيميا أخلاقيا سلوكيا روحيا جوهريا معقدا أو ما يعرف بأدبيات الحكمة بالجوهر فعليه تغذية ذاته بالعلوم التجريبية والمعارف المعنية بالحكمة وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الفلسفية والإدراكية والتنمية الذاتية، ويفتح قنوات "التغذية المرتجعة" مع العالم الخارجي ممثلة بالنقد والنصيحة والاعتراض والآراء والمعلومات المخالفة.


ومن ذلك تلك التي تنتقد وتخالف قوالبه وقناعاته وتوجهاته الخاصة والعامة، وبدون ذلك ليس فقط هو لن ينضج ولن يطور وعيا معمقا متكاملا إنما هو حتى لا يمكنه أن يتأكد من كون ما هو عليه خطأ أم صواب، نافع أم ضار، والله يعذر فقط من سعى إلى الحق والحقيقة بأقصى وسعه لكن عجز عن التوصل إليها، ولا يعذر الكسول واللامبالي والمغتر بقناعاته.

* كاتبة سعودية