-A +A
نجيب يماني
.. أما وقد جلست يا «صالح» على كرسي «الأمانة» في جدة، مسنودًا بـ«الثقة الملكية» الغالية، فاعلم - أعانك الله - أن هذا الكرسي الذي سبقك إليه ثمانية أمناء سابقين، موطئ قلق، ومستقر ساخن، سيدور بك منذ اليوم الأول على أزمات «العروس» الكثيرة.. ولم يعد في الصبر متسع لأهلها، وقد ملأوا الفضاء بالشكوى، وزحموا الأضابير بالمطالبات ولم يحظوا إلا بتصريحات ووعود..

لست غريبًا على «العروس»، ولست بعيدًا من أهلها، فصنيعك قبل التكليف بالأمانة، سيبقى علامة بارزة، وبصمة مائزة تكشف وعيك الباصر، وروحك الوثّابة لخدمة الوطن وأهله، فلن يطمس النسيان أياديك البيضاء في كل الأعمال الخيرية التي سبقت بها، سواء كان ذلك في جمعيات الأيتام، وما ظللت توليه هذه الفئة من فائض عطفك وكريم إحسانك، وما قمت به في دُور الحماية الاجتماعية، وصنيعك في «تراحم» وقد تسنمت رئاسة اللجنة الوطنية لرعاية السجناء وأسرهم، وامتدت يد الخير منك لتطلق أسر بعضهم، ناذرا وقتك وجهدك لهذا الصنيع المبارك، وفي الخاطر أيضا جهودك في ذوي الاحتياجات الخاصة من الصم والبكم، موفرا لهم المقر، ومساعدا إياهم في الزواج، ولن تنسى جدة ما وصلت إليها غرفتها التجارية من علو كعبها إبان رئاستك لها.. كل ذلك وغيره محفوظ في الذاكرة، ومحفوف بالتقدير والاحترام والإعجاب، ولا غرو أن تنال الثقة الملكية بتسنم «الأمانة» في جدة..


ورغم كل الذي نعرفه عنك، ونتوقعه منك، إلا أنه لابد من همسات مخلصة، دافعها المحبة الخالصة، وحاديها الثقة بإمكانياتك، ويخالطها خوف وقلق يرافقنا دائمًا حينما ننظر إلى «الملفات الساخنة» التي تنتظرك، فبعد حين وشيك، سيظل «العروس» موسم الأمطار، وهنا المعضلة الكبرى، والمشكلة التي استعصت على الحل طوال السنوات السابقة.. فعلى الرغم من قلة الأمطار التي تهطل على هذه المدينة، إلا أن واحدة منها كافية لأن تغمر الأنفاق والشوارع، وتعطل حركة السير، وتجعل المدينة عائمة في بركة من ماء آسن، والمحصلة من ذلك، جرف الأسفلت، وزيادة الحفر في الطرق الرئيسية والفرعية، وتوالد البعوض والحشرات القارصة، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض المعدية والخطيرة.. هذا الملف الساخن سيكون حاضرا على طاولتك حال جلوسك على الكرسي.. فماذا أنت فاعل، وماذا بيدك من حلٍّ آني عاجل، وآخر استراتيجي على المدى البعيد يريحنا من هذا الصداع المزمن..

قبل الخريف، طُف يا «صالح» على الأحياء، الجديدة منها والقديمة، ستقف على نقص واضح وبيّن في جملة من الخدمات البلدية الضرورية، بعضها بلا إنارة ليلية، وينقصها التخطيط السليم، وتسرح في ربوعها القوارض بأمان وتتخذ من الطرقات مسرحا للهوها «البريء»، نفايات مكدّسة هنا وهناك، حاويات تعيش فيها القطط والفئران، مشاريع متأرجحة بين البداية ونصف الطريق الذي لم يكتمل، حُمى الضنك أنهكت البعض، والبعوض في توالد، حفريات في كل شارع، تعقبها سفلتة تنخفض إلى باطن الأرض مع أول ضغط عليها أو مطر يصيبها، والمحصلة حوادث بالجملة، واختناقات مرورية، وإرهاق للجيوب من شركات الصيانة. «بزروميا» شجرة مستوردة من خارج الوطن، شوهت أرصفة المدينة وخلعت بلاطها ودخلت إلى أفنية المنازل، تنشر المرض وتنثر الوسخ وتضيق النفس وتثير الكآبة. عشوائيات خلف كل حي، غياب تام لرؤساء الأمانات الفرعية، سيارات الأمانة تجوب الأحياء وعليها عمالة وافدة غير قابلة للتفاهم..

يمكنني أن أمضي معكم في هذا التوصيف «القاتم» لواقع الحال في جدة إلى أقصى الاحتمالات، لكن ليس هذا المراد، فالغاية أن نلفت الانتباه لا أن نصدّر العجز والشكاة، كلنا جزء من الحل، ولسنا ترسا في الأزمة، نعلم جيدًا ما تنطوي عليه نفسك من صالح العزم، ومستنهض الهمة، لذلك لن يسعنا إلا الوقوف بجانبك، سندًا وعونًا متى ما أشرت، فهذه المدينة الباذخة تاريخًا، والمتوثبة حاضرة، تنتظر من يعيد البهاء لها، إنها في مسيس الحاجة إلى استكمال مشروع الصرف الصحي المتكامل، بما ينهي المظهر غير الحضاري لـ«وايتات» الشفط وهي تجوب في المدينة بما يعكر صفوها، ويزكم معاطسها.. إنها في أمس الحاجة إلى اكتمال مشروع تصريف مياه الأمطار على النحو الذي ينهي هاجس «الغرق» السنوي.. إنها تتطلع إلى حدائق عامة تتزين بها وتتيه فخرًا بين مثيلاتها من المدن الساحلية.. جدة ليست شوارع رئيسية فقط تنمق وتزين وترصف وتزرع في العام الواحد عدة مرات، وإنما هناك أحياء تعيش الفقر والفوضى والحفر والمياه الطافحة. جدة كلها تنظر إلى «أمينها الجديد» بعين المترقب إلى ضبط مظهر العمالة السائبة الباحثة عن عمل في الطرقات وتحت الأنفاق والكباري.. إنها تنتظر أبوابًا مشرعة لشكاواها وتجاوبًا فوريًا مع تظلماتها، وتفاعلاً شخصيًا مع ملاحظاتها، بسعة صبر وأناة وتحمل.. الآمال عريضة، والتوقعات عالية، والحلم واسع لا شك، وأنت الأكثر وعيًا بها، والأعرف بما تحتاجه «العروس».. فأنت منها ولها.. أرنا جهدك يا «صالح». فجدة أم الرخاء والشدة، عاشت الشدة وفي انتظار الرخاء.

* كاتب سعودي