-A +A
فؤاد مصطفى عزب
يقال إن الأحلام لم تسم أحلاماً إلا لجمالها، وإن الكوابيس لم تسم كوابيس إلا لبشاعتها، ولكن الأحلام تبقى أحلاماً، وإن أخذتنا إلى عالم جميل مليء بالأماني والدفء والأمان، وتبقى الكوابيس كوابيس، وإن أغرقتنا في عالم الحزن والاكتئاب، والخوف، والإحباط، لا تغير إحداهما أو كلتاهما شيئاً من واقعنا الذي يكون في أحيان أجمل من الأحلام، وفي أحيان أخرى أبشع من الكوابيس، ولكنه واقع نعيشه أحببنا أم كرهنا، نتخبط في خطوطه، ولا ننال منه إلا ما كتب علينا، أو لنا، وقد يخفي واقعنا الجميل كما من البشاعة، وقد يخفي واقعنا البشع كما من الجمال، فليس هناك جمال مطلق، ولا بشاعة مطلقة، وإنما واقع يغلب الجمال فيه على البشاعة، فيكون جميلا، من هذا المنطلق أخذت صحيفة (نيويورك تايمز) خطا جديدا في الآونة الأخيرة، فبجانب متابعتها اليومية والمعمقة للمشاهد الأمريكية والعالمية، تقدم رصدا أسبوعيا كل يوم (سبت) بقائمة لاختياراتها من الأخبار السعيدة والتي تبعث البهجة والأمل، سواء حدثت في أمريكا أو العالم وذلك في محاولة منها لكسر سحب الكآبة والغم التي تظلل سماء الصحافة، تحس وأنت تقرأ ذلك النوع من الأخبار أن ثمة حليباً دافئاً مطموراً في صدرك، حزمة ورد أحمر وبنفسجي مقتطفة من حديقة عامرة، زهوراً يشمها القارئ بعنف، يشمها وردة وردة، ياسمينا وقرنفلاً وجورياً ويعيد شمها مرات، هذا النوع من الأخبار الباعثة للتفاؤل هي بالتأكيد موجودة، ولكن غائبة أو تائهة، وسط طوفان المآسي والكوارث البشرية، ولا شك أنها تحتاج إلى التفاتة حقيقية من صحافتنا، فالقارئ العربي أصبح جائعاً، ليس إلى أخبار الإثارة والدمار والمآسي والفضائح، بل لأخبار تجعله يحب نفسه ووطنه وحياته، يحب قمراً ولو كان بعيداً في سماء بعيدة، إلى أخبار تحول نظرته البشعة للعالم إلى جمال، فينعكس ذلك على ما حوله، ويؤثر حسياً في تغير الواقع البشع إلى جمال أخاذ.

كنت أمر يوماً بالسوق الريفية في نهاية الأسبوع في (كنساس سيتي) حيث كانت تعرض الخضروات، والخردوات، والأثاث، وبضائع الغجر الجوالين، من خواتم وملابس يدوية الصنع، وقلائد للعنق، وبرطمانات العسل المستخلص من نحل حر أصيل، حيث تثرثر العجائز بفداحات آخر العمر، ويضحكن بشراهة وكأن الموت نكتة، وما يحدث في العالم أيادٍ مرحة تدغدغ الخاصرة والحواس، وإذا بي أتوقف عند غجرية غائبة عن طقس الجمال، كانت تفرد شعرها المجعد الأحمر بفعل الحناء، كنت أتجول بلا تركيز، كانت بضاعتها مرصوصة على طاولة، رفعت عيني بغتة، سقطت عينِي على مجموعة أساور ذهبية متشابهة في النقوش، تبهر كل من يتوقف لمعاينة ما لديها، كل من يسألها عن تلك الأساور تقول له (إنها نقشة بركة القمر)، لا أدري لِمَ بركة القمر وليس بركة الشمس أو بركة النجوم، ولِمَ بركة أصلاً، لكنها تلفت نظر المشتري، وكان عدد لا بأس به من المتسوقين يشتري هذا النوع من الأساور منها، ذلك لأن ما ترويه عن تلك الأساور، من صلته باعتقاد طائفة الغجر (ببركة القمر) حيث تمنح الأساور من يرتديها، طاقة إيجابية من البهجة والسعادة وتزيل عنه الهم والغم، كنت على يقين بأن أغلب من يشتري تلك الأساور لا يصدق تلك الغجرية، إلا أن تلهف الناس لفكرة ثقافة الفرح والسعادة، جعل من تلك الأساور سلعة رائجة وتجارة فيها ربح، أرجو أن تتبنى صحفنا المحلية تجربة (النيويورك تايمز) فالأخبار السعيدة «لسه» ممكنة !


* كاتب سعودي