-A +A
محمد مفتي
لعل أخطر إنجاز حققته شبكات التواصل الاجتماعي هو تحقيقها لطفرة ملموسة في أعداد من أسموا أنفسهم بالنشطاء؛ فكل من تمكن من فتح حساب على «الفيس بوك»، أو على «تويتر» أصبح ناشطاً، واعتبر نفسه واحداً من المؤثرين في الرأي العام وفي السيرورة الشاملة للأحداث بالمجتمع، وكل من كتب ملاحظة أو رأياً عابر اعتبر نفسه خبيراً في العلاقات الدولية ومحللاً إستراتيجياً للشؤون السياسية!.

هناك الألوف من النشطاء ممن يحتشدون عبر الساحات الإلكترونية، يصعب تحديد هوياتهم بدقة أو ضبط تصرفاتهم، غير أنه من الجلي أن الكثير منهم ليس لديه أدنى مؤهلات تمكنه من أن يتصف بصفة الناشط، فهم يظنون أن مجرد تصفح ما تتم كتابته هنا وهناك، وكتابة ما يعن لهم بأي صورة وبأي أسلوب، يخول لهم حمل لقب ناشط أو مدون أو مثقف، دون أدنى اهتمام بمعرفة أصول الثقافة وطرق توثيق المعلومات، بل حتى دون الدراية بقواعد النحو واللغة التي يكتبون بها.


قبل فترة وجيزة صدر كتاب «المثقفون المزيفون» للكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس، والذي استعرض فيه رأيه الشخصي ورأي بعض زملائه من المفكرين فيمن أسموهم المثقفين الزائفين، وقد أعرب الكاتب في كتابه عن تعجبه واستنكاره لسلوك فئة من مدعي الثقافة، ممن لا يتورعون عن الكذب لا لشيء إلا لجمع الناس حولهم من أجل إطرائهم والإشادة بهم، والأخطر -بحسب رأي الكاتب- أن أكاذيبهم لا تقابل بالاستهجان في الكثير من الأحيان، بل يتم الاحتفاء بها والتهليل لها، والسبب في ذلك هو أن الكثير من فئات المجتمع غير مثقفة بما يكفي لتفنيد أكاذيبهم أو توضيح عوار فكرهم، كما أن تظاهرهم بمظهر المدافع عن الحقوق ومحب الحق يمنحهم حصانة من التكذيب.

يصفهم الكاتب بالمرتزقة؛ لأنهم لا يدافعون عن القضايا الحقوقية إلا لتحقيق مصالحهم الشخصية، وبالتالي فهم يتربحون ذاتياً من الدفاع عن القضايا المجتمعية المهمة، ليس لأنهم مقتنعون بها، ولكن لأنها تجلب لهم الشهرة والشعبية وتكسبهم حب الناس- وهو الأمر الذي قد يفتقدونه من الأساس- مما يجعلهم أبطالاً وهميين في نظر عامة الجمهور، وفي نفس الوقت ينخدع عامة الجمهور في هذا النمط من المثقفين، ذلك لأنهم يجيدون العزف على وتر قضايا مهمة تمس المجتمع.

استشهد بونيفاس في كتابه برأي مفكر آخر هو جوليان بندا، مؤلف كتاب «خيانة المثقفين»، الذي أوضح فيه أن للمثقفين دوراً مفترضاً في حماية القيم والأفكار النبيلة، غير أن بعضاً من هؤلاء المثقفين يتجه للتربح من ثقافته من خلال ترديد ما يرغب الجمهور في سماعه، ومن هنا فإن بعض وسائل الإعلام والشاشات المتلفزة تستقطب المزيفين من هؤلاء المثقفين وتطالبهم بمناقشة ما يرغب الجمهور في سماعه ترويجاً لها ولهم، وبالتالي يتم اختيار موضوعات جماهيرية والدفع بها إعلامياً، حتى لو اقترن ذلك بالحجج الكاذبة والبراهين الواهية.

أخيراً.. لسنا في حاجة للتأكيد على أهمية دور المثقفين التوعوي في أي مجتمع، فالمثقف هو النبراس الذي يضيء حياة العامة، وهو المنارة التي تهديهم إلى معالم الطريق القويم، ولكن في المقابل فإن الفضاء الإلكتروني مجال يجب ضبطه وتقنينه دون المساس بالرأي الصادق البناء، وذلك للقيام بالدور التنويري الإيجابي والفعال في المجتمع، وهي أولوية تضعها المملكة نصب عينيها تماشياً مع الرؤية الجديدة الشابة لمستقبلها، ومن المؤكد أن ذلك سيسهم في رفع نسب الوعي العام لدى الشباب، وسنتمكن من الاستفادة مما تتيحه تلك المنصات الإلكترونية من إمكانيات واعدة وقدرات عظيمة.

* كاتب سعودي

mohammed@dr-mufti.com