-A +A
عبدالرحمن الطريري
أعتقد أن إيران بدأت بجدية السعي إلى دخول قائمة غينيس للأرقام القياسية، عبر سرعة التراجع عن التصريحات، وإنكارها أو القول بأنها فهمت خارج سياقها، هذا إضافة إلى احتفاظها بأرقام قياسية في التنوع السياسي في التصريحات، فتجد مسؤولا إيرانيا يحكي عن حرق أمريكا والاحتفاظ بحق الرد على ضرباتها في سوريا، ومسؤولا آخر يتحدث عن أهمية الحوار مع واشنطن، على قاعدة «بضاعة لكل مشترٍ».

خلال الفترة التي سبقت قرار الولايات المتحدة بالخروج من الاتفاق النووي أو البقاء فيه، هددت إيران بأنها لن تبقى فيه إن خرجت واشنطن منه، وهو ما يعني ضمنيا الإقرار بأن وجود روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في الاتفاق لا يعني شيئا دون وجود أمريكا، ثم عادت لتقول بأنها ستبقى فيه إذا ضمنت الدول الأوروبية الثلاث مصالح إيران في الاتفاق.


استمرت طهران في الجولات الديبلوماسية مع باقي الدول في الاتفاق، ولعل أحد أبرز الدعابات في تويتر بعد اجتماع وزراء خارجية طهران والدول الخمس، ما قاله وزير خارجية إيران بعد المفاوضات حيث ذكر أن أولى نتائج الاجتماع «عزل أمريكا»، وحقيقة لا أعرف إن كان لهذا الوهم مشترون في 2018.

الاتفاق النووي في حقيقة الأمر ليس هو المشكلة في حد ذاته، فتخلص إيران من السلاح النووي أمر حميد، لكن المشكلة التي خلقتها إدارة أوباما هي تحويل الاتفاق النووي، إلى اتفاق لا يناقش تطوير الصواريخ البالستية، ولا تدخل إيران وميليشياتها في الدول العربية، وزعزعة استقرار هذه الدول وجعلها بؤرة للإرهاب.

هذا يقودنا إلى شروط بومبيو الاثني عشر، والتي عرضها على إيران في أول كلمة له بعد توليه المنصب، بخطاب اتصالي مختلف حول العصا والجزرة، يعرض على طهران اتفاقاً نووياً آخر ورفعاً للعقوبات، ويعرف أن إيران تشاهد على التلفاز كوريا الشمالية وهي تقبل بهذا العرض، وهي الدولة التي تعنتت عن الرضوخ للتخلي عن قدراتها العسكرية لعقود، بل وتملك قدرات صاروخية ونووية تفوق إيران بمراحل.

شروط بومبيو صعبة جدا على إيران، خصوصا الطلب منها الخروج من سوريا، بعد سبع سنوات من نزف الدم والمال، بل إن سوريا هي المنطقة الأولى في العالم التي تجبر إيران على القتال بحرسها الثوري، منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، حيث كانت في باقي الدول تخوض معاركها بالوكالة وعبر الميليشيات العربية، وعلى أقصى تقدير ترسل مستشارين هنا أو هناك.

ولكن السؤال هل وعت إيران ما حصل في واشنطن منذ وصول الرئيس ترمب للبيت الأبيض؟ وممارسات إيران شاهد على أنها وعت تماما الاختلاف بين الإدارة الحالية والسابقة في البيت الأبيض، فلم تعد إيران تجرؤ على الاعتداء على قطع حربية أمريكية في الخليج العربي أو غرب اليمن، كما كانت تفعل في العام 2015 و2016، ناهيك عن استحالة قيامها بالقرصنة واحتجاز بحارة أمريكيين في الخليج العربي.

لكن هذا لا يعني أن تكف إيران عن تصريحات القراصنة، مثلما قال الرئيس روحاني من أنه سيغلق مضيق هرمز ويمنع شحنات دول الخليج من عبور المضيق، إذا ما استجابت الدول لطلب واشنطن منع شراء النفط الإيراني، وهو ما تبعه سليماني برسالة تأييد، قبل أن يخرج المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية للقول «توفر الولايات المتحدة وشركاؤها الأمن والاستقرار في المنطقة. ونقف معا على أهبة الاستعداد لضمان حرية الملاحة والانسيابية للتجارة الحرة بما يسمح به القانون الدولي».. وبالطبع تراجع الإيرانيون مباشرة بعد هذا التصريح.

اليوم رغم كل هذا الصراخ عن التسليح والاتفاقات التي تلزم الدخول بالتخلص من أسلحتها، إلا أننا في زمن حروبه الحقيقية حروب اقتصادية، فالضربات العسكرية للتواجد الإيراني في سوريا أو اليمن أو غيرها، لا توجع بمقدار إيلام إنعدام دخل إيران من النفط، وامتناع أسواق مهمة للنفط الإيراني من شراء بضاعتها.

الإدارة الأمريكية تستهدف وصول صادرات إيران من النفط إلى صفر، مع عقوبات خانقة ستأخذ مداها في نوفمبر، مع واقع يقول بانخفاض مستمر للعملة الإيرانية، ومظاهرات مستمرة ذات دوافع اقتصادية وضد فساد الحرس الثوري، هذا يدفع إيران بعد أن حاولت العبث في خرائط الدول العربية، إلى العودة مضطرة إلى حدودها الجغرافية، والأسوأ أن يكون الحل الوحيد لمشكلاتها الداخلية بالقبول بشروط بومبيو، والتي ستكون بمثابة السم الذي يتجرعه خامنئي كما فعل سلفه حين وقع على إنهاء الحرب مع صدام.