-A +A
يحيى الامير
مع انقضاء شهر رمضان السابق تكون النيابة العامة في المملكة قد أكملت عاما على تأسيسها، وفي الواقع فإن ما تحقق في هذا العام كان أكبر بكثير مما تستوعبه هذه الفترة الزمنية، إننا أمام حلقة تمثل أبرز وأهم تجارب التحولات الجديدة التي تعيشها المملكة، والتي تثبت أيضا أن القدرة على التغيير والتطوير لا يعيقها شيء إذا ما توفرت الإرادة والكفاءة والوعي.

أستطيع القول إن أحد أبرز التحولات التي أحدثتها النيابة العامة ذلك الذي يمكن وصفه بالتحول الثقافي والتحول في الوعي العام؛ تحول باتجاه بناء ثقافة جديدة يمكن أن تلمسها في الحياة السعودية اليومية تعكس وعيا جديدا بالحقوق والواجبات، وبات الناس في مواقع التواصل الاجتماعي أكثر إدراكا لما تعنيه النيابة ولما تمثله من حماية لهم ولحقوقهم بل ولحرياتهم أيضا.


في أحد البيانات المبكرة التي أصدرتها النيابة العامة بعد فترة وجيزة من انطلاقها جاءت هذه الجملة الجديدة: حماية السلم الاجتماعي.

تمثل هذه المهمة نقلة هائلة في تدخل الدولة لإدارة أخطر الملفات المسكوت عنها وهو: السلم الاجتماعي، بالتأكيد لم تكن هذه الجملة بردا وسلاما على أولئك الذين طالما شرخوا السلم الاجتماعي وباعدوا بين شرائح المجتمع وبالغوا في تقسيمه وتهديد سلمه الاجتماعي، وحاول بعض المأخوذين بالرأي وحرية الرأي وغيرها من القيم الجيدة التي طالما تم استغلالها سلبا التشكيك في هذا المنتج الوطني المدني الجديد ورأوا فيه تضييقا على الرأي، ولكن سرعان ما اتضح للجميع أنه تقييد وتضييق على كل محاولات الإضرار بالحياة العامة وعلى كل تهديد كان يتعرض له سلمنا الاجتماعي بدواعي الإصلاح تارة وبدواعي نصح الناس وإرشادهم تارة أخرى.

لقد عززت الإرادة الملكية الكريمة الواعية من قوة وفاعلية النيابة العامة ومنحتها الاستقلالية الكاملة حين تم ربطها مباشرة بالملك، وهو ما ضاعف مسؤوليتها أيضا وجعلها تتحول من مجرد جهاز من أجهزة العدالة إلى جهاز يسهم في الدفع نحو التحولات المدنية التي تعزز قيم الحياة اليومية القائمة على مبدأ احترام حريات الأفراد وخياراتهم وإدارة كل ذلك بالنظام والقانون.

لقد مثل التفاعل النوعي للنيابة العامة مع كل ما يطرح في منصات التواصل الاجتماعي واحدا من أبرز نجاحاتها، استثمرت النيابة العامة ذلك الزخم والتأثير الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي في المملكة بوصفه جزءا مهما من الإيقاع اليومي للحياة السعودية، واستطاعت أن تكون عنصرا مؤثرا لا في القضايا والتحقيق والتوجيه بالتعامل مع ما تشهده تلك المنصات من أحداث فحسب، بل كان لحضورها ذلك تأثير في بناء وعي جديد لدى الناس بمسؤوليتهم عن كل ما يقولونه ويطرحونه في تلك المنابر، وباتوا أكثر تنبها للتفريق بين الرأي وبين التحريض مثلا.

كان هذا العام الذي شهد ولادة النيابة العامة حافلا بالكثير من القرارات والمستجدات النوعية والإيجابية في الحياة السعودية، ولعل من أبرز الصعوبات التي كانت تواجه ظهور مثل تلك القرارات والتحولات الحاجة إلى جهاز عدلي رقابي حر ومستقل وغير خاضع لأية أيديولوجيات أو حسابات غير وطنية، لقد واكبت النيابة العامة كل تلك التحولات والقرارات باحترافية عالية وبمنطق وطني ومدني عالٍ، وكان آخرها تلك المواكبة لبدء سريان تنظيم المرور الجديد بإشراك الشارع في المحاذير والتصرفات التي قد لا يتنبه إلى ما تحويه من خطورة واعتداء على حريات الغير، ووجهت النيابة العامة بالقبض على من ظهروا في مقاطع يعلقون بشكل ولغة عدائية مستفزة تمثل عدوانا على حريات الآخرين وحقهم في تقرير ما يرونه بعد أن بات النظام يساوي بين الرجال والنساء في قيادة السيارة.

أول عبارة في رسالة النيابة العامة تنص على: حماية الحقوق والحريات، وبكل أمانة فما تقدمه النيابة يثبت أنها ليست مجرد عبارة عامة بل هي واقع يمكن قراءته كل يوم، ولعل ما تبثه النيابة يوميا في حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي أبرز دليل على هذا الدور الواسع والنوعي الذي باتت تضطلع به.

إننا أمام نموذج يثبت أن بناء المؤسسات والأجهزة الوطنية الحديثة يحتاج أولا إلى أن تكون منطلقاتها وقيمها وطنية مدنية نابعة من الثقافة السعودية الأصيلة بكل مكوناتها الدينية والاجتماعية وفق المنظور الوطني الذي تعد فيه الدولة الحديثة مسؤولة عن بناء ودعم الحياة الكريمة السعيدة القائمة على الخيارات والتنوع.

وبكل تأكيد فأمام النيابة العامة الكثير من التحديات والمهام المستقبلية الواسعة التي تتضاعف يوميا مع كل خطوات التغيير الهائل والإيجابي الذي تعيشه المملكة، وما تابعناه خلال عام واحد من أداء النيابة العامة يعطي مؤشرات مهمة على أنها الجهاز الأمثل بقيادته وكوادره وبما يجده من دعم حقيقي من القيادة لبناء سلم اجتماعي يرسخ واقعا وطنيا متجددا وواقعا عدليا يتواكب مع خطواتنا العظيمة نحو مستقبل يليق بهذه البلاد العظيمة.

* كاتب سعودي

yameer33@hotmail.com