-A +A
علي بن محمد الرباعي
دعاني أصدقاء إلى عشاء في ساحل تهامة، ووعدني أحدهم بوجبة لم أذق مثلها في حياتي. تحركنا من السراة، ومعنا لوازم قهوة العصرية، وفي برحة بأحد منعطفات عقبة الباحة بسطنا الفرشة وتناولنا ما قسم الله، وتبادلنا أحاديث حول مواضيع شتى، منها البطالة والتواكل على الوافد وحاجتنا إلى أيد وطنية عاملة في كل مهنة وحرفة.

استعدتُ معهم قصة الصناعات في القرى، التي أدركتُ جانباً منها، وذكرت لهم نماذج من مهارة صناع أدوات الحرث والزراعة والحصاد وافتتان أهل القرية بهؤلاء المهنيين حد أنهم يتغنون بصناعتهم ويتحدثون عن كرمهم.


أحد الرفقة ممن لا تزال تتلبسه حالة انغلاق نقل الحديث إلى الفن والغناء وأسرف في الحديث عن البطالة وإلهاء الشباب، والحاجة الماسة لاستيعاب الكوادر في كل المهن، وبعد أن هدأ شرحتُ له أن الفنون ومنها الغناء ارتبطت بنشاط الإنسان السعودي وإنتاجه، وأننا كنا نمارس الفنون ونغني ونرقص، لأننا نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، وأكدتُ لهم أن صاحب المهنة كان من أرقى الناس ذوقاً، كما أنه يمارس الفن في صناعته عبر ابتكارات جديدة، لأن كل ما حوله يشع بالحياة، بما فيها الراديو الذي يصدح بالأغاني فيجتمع الجيران عنده وقت فراغهم يتابعون أداءه لحياكته وصناعته ويستمتعون بالطرب ويشربون ما تيسر من شاي وقهوة، ما عزز ثقافة الإنتاج في أربعة أجيال على الأقل منذ وحدة بلادنا.

بعد صلاة المغرب أكملنا المشوار وإذا بالرفقة الطيبة يتوقفون بنا عند مطعم عليه لوحة مضيئة تحمل اسم المعلم (خورشيد)، دخلنا فاستقبلنا «الشيف» بحرارة ومودة، ولم يزيدوا على أن قالوا له «زي العادة».

أخرج من برادة قطعا من اللحم، ووضعها في قدر ضغط، وصب عليها الماء، وركبها على النار، وبما أن أحد أصحابنا يمون، قال: يا خورشيد نبغي طحينك اللي جبته معك من بلدك، فأجاب أبشر عمي، ووضع ماء ساخنا في قدر، وصب عليه الطحين، وأخرج (الدريل) أو البرامة الكهربائية التي يحفر بها السباك والكهربائي جدران المنازل، وبدأ يعصد كهربائياً، تناولنا العصيدة بالمرق واللحم مجهول المصدر، فحاسبوا وأكرموا خورشيد، فتجشأ المنغلق وقال «الله لا يغيّر علينا».