-A +A
بشرى فيصل السباعي
تصور الموقف التالي؛ مريض يعاني تشنجات عنيفة مزمنة وجسده مليء بالقروح النازفة المتقيحة ويتخبط من فقده للإبصار ولا يستطيع القيام بشيء لنفسه وعلى الآخرين القيام بكل شؤونه، لكنه مصر أنه معافى تماما، وعندما يتطوع الأطباء لتشخيص حالته وأمراضه الخطيرة يهاجم الأطباء ويتهمهم بأنهم مغرضون وأعداء لأنهم يقولون إنه ليس معافى، فماذا سيكون تقييم العقلاء لموقف هذا المريض من الأطباء الذين يحاولون معالجته؟

هذا حرفيا مثال من يرى الإرهاب والحروب الأهلية والتخلف التنموي والانهيار والفشل بكل المرافق والفساد المالي الوبائي في كثير من البلدان العربية والإسلامية ثم عندما يقوم أهل الخبرة بتشخيص أسباب تلك الأحوال المرضية بموضوعية التشخيص الطبي يواجهون بتيار شعبوي تحريضي يتهمهم بأنهم مغرضون وأعداء لأنهم لا يقولون إن العالم العربي والإسلامي معافى تماما وأفضل عافية من كل دول العالم التي تنعم بالسلام والرفاه والنزاهة والتطور المؤسساتي والعلمي والتكنولوجي!


وسبب هذا السلوك للتيار الشعبوي هو؛ آلية لا واعية تسمى بعلم النفس «الحيل الدفاعية اللاواعية لغرور الأنا» التي تسير الأنا الفردية والجماعية إلى رفض كل ما ينبئها بأنها ليست بحال المثالية المطلقة المستعلية، وذلك عبر حيل يتحايل بها «غرور الأنا» على ضميره الأخلاقي والعقلاني ليتهرب من الإقرار بواقعه الحقيقي الدوني، وأول تلك الحيل؛ «النكران» حيث ينكر حقيقة واقعه السلبي ويهاجم من يشخص أمراضه ويرميهم بأنواع التهم التي تشيطنهم بنظر الجمهور، ثم بعد استنفاد هذه الحيلة، ينتقل إلى الحيلة التالية وهي إنكار مسؤوليته عن واقعه السلبي ولوم الآخرين عليه وفبركة نظريات مؤامرة خرافية تزعم أن أمراضه نتاج مؤامرات الآخرين، ثم بعد استنفاد هذه الحيلة ينتقل إلى حيلة المماحكات اللفظية التي تهدف لصرف الانتباه عن القضية الجوهرية، كالقول إن من يشخص أمراض الأمة يقوم «بجلد الذات» و«الانبطاح»، وكتخدير الوعي بأفيون التشدق بالصور الذهنية الطوباوية الواهمة عن التاريخ وبشعارات مثاليات نظرية مدفونة في بطون الكتب لا يطبقونها بواقعهم ليستعلوا بتشدقهم على واقع الآخرين الذين يطبقون بحق تلك المثاليات وإن شاب تطبيقهم شوائب هامشية، كما قال النبي بالصحيح (يبصر أحدكم القذاة -حبة الغبار- في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه).

وكلما ارتفع مستوى التطور الحضاري صارت الثقافة نقدية وتجبر الفرد والجماعة على الاعتراف بأخطائهم وإصلاحها ومعالجة الأسباب التي أدت إليها، ولهذا هي ثقافة تطوير وتصحيح ذاتي مستمر، بينما الثقافات المتخلفة تسودها مكابرة وعنتريات مزاعم المثالية المطلقة ورفض الاعتراف بالخطأ والقصور، ولهذا لا يصطلح فيها خطأ ولا قصور.

* كاتبة سعودية

bushra.sbe@gmail.com