-A +A
نجيب يماني
استقبلت، مثل غيري من الأدباء والمثقفين، قرار فصل الثقافة في وزارة مستقلة عن الإعلام، بكثير من الارتياح، لقناعتي أن ارتباط الثقافة بالإعلام في ظل الظروف الراهنة، سواء على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو العالمي، يأتي خصمًا على أداء المكونين؛ الإعلام والثقافة.

فلو أنا نظرنا إلى الإعلام اليوم، لأدركنا حجم المتغيرات الكبيرة التي طرأت عليه، سواء على المستوى التقني، أو مستوى المحتوى المطروح، وتبدّل أدواره الكلاسيكية المنظورة في نقل وإشاعة التغطيات للأحداث المختلفة على نحو سطحي، بدوافع المهنية الصرفة، بمقصود الغاية الأولى وهي تمليك المُتلقي الحقيقة.. فمن المتفق عليه في عالم اليوم أن الإعلام بات «سلاحًا» مهمًا في تمرير الأجندات، وتغيير المفاهيم والآراء، والتأثير المباشر بشكل فوري وسريع، وأصبح كذلك ساحة لصراع مكشوف بين الأقطاب الإقليمية والعالمية، مسنودًا بوسائل تقنية خارقة لحجب الخصوصية، وهادمة لكل أستار الشخصية، وناسفة لكل حواجز الذاتية، بما يجعل من المصدات التقليدية القديمة مجرد ديكور في معرض التاريخ التقني، وبإزاء هذا الوضع الذي نصفه لمحًا وخطفًا على سبيل التمثيل فقط، يصبح من اللازم أن يكون الإعلام مستقلاً تماماً عن الارتباط بأي مسؤوليات أخرى، تلحق به في مسمى وزارته، فالتحديات أمامه في راهن العصر كبيرة؛ بل إننا نتوقع توسعًا في هذه الوزارة مستقبلاً بحيث تستقل هيئات فيها بوزارات منفصلة، تحقيقًا لهدف التخصص، بحثًا عن التجويد، ومواكبة للتطور المهول الذي يطرأ على العالم كل لحظة.


والحال نفسه ندركه حين النظر للثقافة بوضعها الراهن، ومغادرتها هي الأخرى لمربع المفهوم التقليدي الذي ساد ردحًا من الزمن، وارتبط أشد الارتباط بالآداب والفنون على اختلاف مشاربها، فالواقع الماثل أمامنا اليوم يضع الثقافة في صدارة المشهد، بما يتوجب معها أن تولى ما تستحق من العناية والاهتمام، آخذين بعين الاعتبار أن المكون الثقافي للأمم بات محل استهداف، منذ أن ركب العالم الجديد موجة «العولمة»، وباتت كل الأمم مهددة بغزو ثقافي ماحق، ما لم تعمل على تحصين محتواها الثقافي، ومكونها الإرثي والحضاري بشكل لا يقبل الذوبان، ولا يفهم من فكرة التحصين الدعوة إلى الانغلاق، فهذا مما لا يمكن حدوثه، ولا يجدي فتيلاً، بل إن الأداة الأساسية لهذا التحصين تكمن في الانفتاح، وليس الانغلاق على الإطلاق.

وهنا يكمن جوهر القرار وصوابه بتخصيص وزارة للثقافة منفصلة عن غيرها من الوزارات الأخرى، سواء كانت الإعلام، أو التربية والتعليم، سابقًا، أو أي من «القاطرات» السابقة التي كانت «تردف» الثقافة معها في «صحبة راكب»، ليتسم العطاء -على ما كان فيه من اجتهاد- بالنقص، الذي ضاعف من وتيرة المطالبة بوزارة مستقلة للثقافة لدى كثير من الأصوات، التي نادت بذلك سابقًا، ليتحقق لها ذلك في هذا العهد الزاهر، في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمين حفظهما الله.

إن المتغيرات التي حدثت في الساحة السعودية، منذ إعلان الرؤية المباركة حتمت إجراء تغيير إداري كبير، ليس على مستوى الأفراد، بل على مستوى الهياكل والنظم الإدارية والمؤسسية، ومن ذلك ما لمسناه من تغيير في بوصلة الثقافة السعودية، والاهتمام الكبير الذي أولته الرؤية لهذا الجانب الحيوي، بما يكشف عن حجم الوعي لدى قيادتنا الرشيدة، فكانت البشارات الأولى بتكوين الهيئة العامة للثقافة، ثم هيئة للترفيه، وكلتاهما ظلت منذ تأسيسهما ترفد الساحة الثقافية والأدبية والفكرية والفنية بنشاط لمسنا آثاره الإيجابية الكبيرة، بخاصة وأن المملكة أعلنت الحرب على مفاهيم عتيقة وبالية في «مسلاخ الصحوة»، أخذت بخناق المجتمع، وضيّعت هويته وحضارته، فكان عطاؤهما ثرًّا في سياق «كنس» هذه العوائق الآيديولوجية الوافدة، ومن هنا يتعاظم الدور وتكبر المطامح في الوزارة الجديدة بقيادة الأمير الشاب بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، فالثقافة باتت لاعبًا مهمًا على المستوى الداخلي في إحداث التوازن النفسي في مفاصل المجتمع، وتحقيق أهداف الرؤية إلى أرض الواقع بشكل يؤتي أكله وثماره المرجوة في إخراج مكنونات هذا الشعب الخلاق، والقادر على إحداث الفرق بما يملكه من وعي وثقافة وتراث وحضارة، وهنا يأتي الدور الثاني بتوسيع مظلة المشاركات الخارجية، وفتح النوافذ أمام الثقافة السعودية لتأخذ براحها في الفضاء العالمي، وتحدث التأثير المأمول، بما تملكه من مقومات لا ينقصها سوى الثقة منا بقدرتها على إحداث الفرق في عالم العولمة، وإنها لجديرة بهذه الرسالة، وقد توفر لها في هذا العهد الزاهر الكثير من المعطيات والروافد القادرة والحكيمة، فما عليها سوى تحريك كل هذه المعطيات لصالح تفعيل النشاط، وتوسيع دوائر المشاركة، وإتاحة الحرية المنضبطة، وتوفير لوازم العطاء الإبداعي في كل المجالات، وتمكين المواهب الحقيقية من إخراج ما تزخر به من عطاءات، وإزالة كل العوائق التي تقف دون تحقيق هذه الغايات النبيلة، وعندها فقط سندرك معنى أن تكون هناك وزارة الثقافة، مستقلة عن بقية الوزارات، فاعلة برؤاها، ماضية إلى وضع اسم المملكة العربية السعودية في أعلى سارية العطاء الثقافي الإنساني في كل المحافل.. وإنه لرجاء وأمل نرجو أن نلمسه حقيقة في القريب العاجل.. وعاش سلمان وولي عهده الأمين القوي.