-A +A
بشير أحمد الأنصاري *
يوشكُ الشهرُ الكريمُ على الانتهاء، وها نحنُ على مشارف عيد الفطر المبارك. البعضُ منا لم يكن الصيامُ له إلا طقوساً موروثة من الآباء والأجداد. والبعضُ الآخر واعٍ إلى حدٍ ما بحِكَم وأسرار الصيام ولكن مع أذان المغرب ينسى تلك الحِكم والأسرار ويغفل عن المَغزى الرمضاني ويلتهم كل ما يوضعُ أمامَه انتقاماً لساعات الجوع في النهار! والبعضُ الآخر منا أمضى شهرَه شاكياً عابساً مُقطّباً غضوباً، ولا أدري كم نسبةُ من استقبل رمضان مِنّا مستحضراً مقاصد هذه الفريضة وأخلاقياتِها ورسالاتها.

إن الصيام أوسع من مجرد العلاقة بين الفقر والغِنى وبين الشبعِ والجوع الحِسي. في عصرنا يوجد من يقتله الجوع، ويوجد من يقتله الكوليسترولُ والدهونُ والضغطُ المرتفع، ولكلٍ من هذا وذاكَ يُوجه الصومُ رسالتَه. إن برنامج رمضان يسَعُ جميع شرائحَ المُجتمع ويُوجه لكل فئةٍ رسالةً مختلفة عن الأخرى.


على ضوء ما سبق ذكره حول مدرسة الصيام، سنجدُ أن الصائم حينما يُمارسُ هذه العبادة ويستظل بظلال قِيمها وينعم في رياضها اليانعة لا يقفُ صيامه عند حد الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما تكون يده وعينه وأُذنه وجوارحه وعقله وتفكيره وروحه صائمةً معه، مُمسكة عن الاقتراب من حِمى المُحرمات.

إن رمضان يشحن في الإنسان معاني الخير والفضيلة والعاطفة المُرهفة والبر والصبر ويُسكّن الروح المضطربة ويُنقي ما يعلق بالنفس من كدر وشحناء. ومن الناحية الفيزيولوجية يُنقي الصيام الجهاز الهضمي ويطرح السموم من البدن، ومن الناحية الاجتماعية يُحرك الصيام دافع العطف والشفقة في الناس، ومن الناحية الإنسانية يُمثل الصيام وشيجةً تربط بين جميع الأديان والمجتمعات كافة.

إذا كان عالمنا يستعر في محرقة الاستهلاك المفرط فإن رمضان كفيل بأن يُنقذنا من لهيب هذه المحرقة. وإذا كانت مجتمعاتنا تُعاني من ويلات العُنف والاحتراب وتتجرع مآسي القتل والدمار فإن رمضان بمغزاه الحقيقي ورسالته السامية كفيل بأن يأخذ بأيدينا ويُخرجنا من زوبعة هذه الفتن. وإذا كانت المجتمعات تضجّ بضحايا الاكتئاب والأمراض النفسية فإن رمضان بنفحاته وخلواته وتشريعه للاعتكاف يُساعد الصائمين على مُجالسة النفس بانفراد ولمِّ شتات ما تبعثر منها في دنيا الصخب.

إن الصيام ليس رمزاً للتخلف وتقديس المواريث القديمة البالية، وإنما الصيام مدرسة حضارية تتسم بأعلى سمات التعقل والعلم والفكر. صحيحٌ أن أدياناً وطوائف عديدة تمارس الصوم وتهتم به، ولكنك لن تجد أياً منها يقارب مدرسة الصيام الإسلامي في انضباطها وعمقها وعقلانيتها وجلالها وجمالها.

الصيامُ أم المعجزات!

* محاضر بجامعة (إس إم يو) بولاية تكساس الأمريكية سابقا