-A +A
عبدالرحمن فهد الحارثي
أمي الجليلة.. لا أعلم كيف اتسعت بوابة الموت لرحيلك! ذلك الرحيل المهيب، الذي حمل في جلبابه عوالم من الحنان النادر والطيبة الساحرة والوفاء في زمن يندر فيه الوفاء.. كالشمس تغيبين وأنت ملء كل المكان. أمي الجليلة.. ربما هذه المناسبة الحزينة الأولى في حياتي التي لن تشاركيني بها، ولن يذوب همي في كفي يديك، ولن ترحل أحزاني في معالم وجهك ملائكي القسمات...

قنديل حب وخفت.. بل شمس وانطفأت! لم تكوني دوما أمام عيني ولكن يعلم الله أنك كنت كل ما أرى..


منذ عرفتك طفلا وأنت تقابلين الإساءة بالإحسان والجحود بالعرفان والبلاء بالصبر وهي سمات الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب.

أشهد الله يا أمي أنك كنت خير زوجة وشريكة كفاح. كنت تحزمين الحقائب وترحلين خلف أبي من ميناء إلى آخر ولا تعلمين حتى أسماء المدن..

وأشهد الله أنك كنت خير أم لأبنائك، فغمرتنا بحب لا ينقطع، وعلم نافع متصل، والتففت حولنا كالسماء فلم نخش ولم نجزع صروف الدهر، وأقبلنا على تضاريس الحياة كما أردت. وأشهد الله أن خيرك وصل البعيد قبل القريب، وأن ما كان في يديك لم يكن لك، بل للمسكين والمحتاج وابن السبيل. كثيرون المكسورون الذين ظهروا فجأة في عزائك وبكوا على عتبة بابنا وحكوا لنا كثيرا عن خيرك الذي كنا نعرف بعضه وكثيرا لم نكن نعرفه..

حل الفراق يا أمي...!

وحروفي لها نحيب طويل وحزين، وموال شوق جارف يعصف بضلوعي.. من بعدك سيصلح ما تعبث به الأقدار، ومن بعدك سيغسل هموم الزمان، ومن بعدك سيثير البهجة في أرجاء عمري العطيب! أشهد الله أنك كنت يا أمي زورق حب يجوب المحيطات، ليضمد جراح المكلومين ويرشد من ضل من التائهين، وكان في قلب كل وجع مر في طريقك قصيدة، تسقينه مواساة بحجم كل الدنيا وتضعين في كفيه ألف عنقود عنب لتطلقيه لبساتين الفرح من جديد..!

قدر الله ولا راد لقضائه وإنا لله وإنا إليه راجعون. سنبقى كما طلبت منا دوما يدا واحدة على فعل الخير والمعروف وحب الله وحب خلقه ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر. سنبقى متحلين بالصبر وإن كبر المصاب وصادقين العزم على البر بك بعد رحيلك.

أشتم عباءة صلاتك وأنا مثقل بأوجاع الحنين وأحمل على كتفي حزنا يكفي كل الكون.. أودعك وأنا المكلوم كبئر حزن، لا فرح يواسيني، ولا نصر يغريني، وجروحي فقط هي رفيق دربي.. سأخبر الناس يا أمي أنك عبرت يوما من هنا.. ككتب الأديان.. كالصلوات.. كالمطر.. ونثرت عبق الورد وأطعمت حمائم السلام ومضيت..!