-A +A
طلال بن حسين قستي
تشهد الساحة السياسية على مستوى العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، سباقاً محموماً تمتد مسافاته ما بين المشرق والمغرب، ولا تتوقف أحداثه لدرجة تحير المتابع لما يجري في العلاقات الدولية، خصوصا بين دول الغرب وتجعله يتساءل: كيف لقرار انسحاب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي المبرم بين مجموعة (5+1) وإيران قد أحدث هذه الصدمة أو بالأحرى هذا الزلزال وتوابعه التي لم تتوقف، فأنتج هذا الاختلاف الواضح في التصريحات الأوروبية المناهضة للموقف الأمريكي.

فما الذي يدفع دولاً غربية عظمى كألمانيا وبريطانيا وفرنسا لمرحلة تصعيد المواجهة مع أمريكا لإرضاء إيران.! وهم الذين يعتمدون عليها كلياً للحماية والانتفاع من قوتها الاقتصادية والعسكرية والثقافية والإعلامية؟ هل هي خطط المصالح الاقتصادية بين تلك الدول وإيران؟ أم لمآرب أخرى تخدم الأطماع الأوروبية بالاتفاق مع إيران في اقتسام الغنائم، وجني الأرباح في منطقة تزخر بالثروات الطبيعية.


الأرجح بالنسبة لي، أن الاتفاق النووي هو واجهة لاتفاقات سرية سعت إليها إيران لإشباع الشهية الاقتصادية للأوروبيين ويكون ببساطة وفقاً للآتي: تتوقف إيران عن تخصيب اليورانيوم لمدة محدودة وحتى عام (2025) وتلتزم ببعض الشروط لترضي بعض الأطراف، وبالمقابل لا يعارض الغرب أي خطوات تتخذها إيران للتوسع والتمدد آيدلوجياً وعسكرياً (من خلال الميليشيات التي تتبعها) في دول الجوار العربية، وبالتالي يكون للدول الموقعة الامتياز الأول في استغلال ثروات إيران وما جاورها من دول، وهذا بالطبع اتفاق سري بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي الذي لا يهمه إن سيطرت إيران على دول المنطقة طالما ستنعم هي بخيرات وثروات تلك الدول بضمانة إيرانية.. هذا تحليلي الخاص، وإلا بماذا نفسر هذه الاستماتة التي تبديها الدول الغربية للحفاظ على الاتفاق النووي؟! وهي تعلم يقيناً أن مشكلة إيران مع العالم لا تقف عند القنبلة النووية.. بل تتعداها لتشمل كل الأعمال التي تزعزع الاستقرار.. وتبث الفرقة والطائفية في كل المنطقة بحجة تصدير الثورة.

أما بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية فبات الأمر مكشوفاً، ولا يمكن لشخص في ذكاء الرئيس دونالد ترمب أن يقتنع باتفاقية تشوبها الكثير من العيوب والمآخذ، وهو يرى كيف أن استغلت الاتفاقية وأخذت راحتها في إيذاء جيرانها، خصوصا دول الخليج العربي، ولم تتوقف عن تخصيب اليورانيوم الثقيل، وأيضاً ومن التوسع في برامجها العسكرية خاصة المتعلقة بإنتاج الصواريخ.. إضافة إلى تواصل إذكاء الفتن بدعم الميليشيات الإرهابية التي تهدم كيانات الدول وتمزق مجتمعاتها وتحيلها إلى فرق طائفية.

إن هذا التحليل المبسط لما وراء الاتفاق النووي، هو استنتاج واقعي لما سعت إليه إيران بدهاء للتأثير في الغرب منذ عقود؛ بأموالها الطائلة التي تصرف على الجهات والجماعات والأفراد الذين يخدمون سياساتها، خصوصا في وسائل الإعلام الغربية وكذلك ما يصرف من أموالها على الميليشيات العسكرية التي ترفع شعاراتها، وتأتمر بأوامرها لتنفيذ المهام الإرهابية في ما يسمى بحروب الوكالة.. تماماً مثل ما فعلت في لبنان وسورية والعراق واليمن.. وفي بعض الدول الأفريقية.. وآخرها ما كشفت عنه المملكة المغربية من دعم وتواصل مشبوه بين جبهة «البوليساريو» المرفوضة دولياً والذي أسفر عن قطع العلاقات مع إيران منعاً لتكرار ما فعلته مع «الحوثي» في اليمن، فتزويد «البوليساريو» بالأسلحة ثم الصواريخ والخبراء لتشغيلها.. لن تهدد المغرب فقط وإنما لتهديد الدول الغربية عبر بوابة المحيط الأطلسي.. فالصواريخ البالستية الإيرانية ستجمع هناك ثم تنصب.. وعندها تقول إيران للغرب: نحن على أبوابكم اتفقوا معنا وإلا ستطالكم صواريخنا وقنبلتنا النووية.. ولكن القيادة المغربية تيقظت لهذا الأمر وكشفت في الوقت المناسب المخطط الذي كان سيحول الصحراء المغربية لبؤرة إرهاب، ولكن للأسف أن الغرب لم يقدر هذه الوقفة الحازمة من المغرب، وذلك بسبب تأثير الإعلام الغربي الموالي لإيران.

ولذلك نكرر القول أن ما يحدث في الساحة الدولية الآن يدعونا حقيقة للتأمل في نتائج ما ستحدثه اليقظة الأمريكية ضد الخنوع الغربي لإيران، وفي ظني أن الحملات التي واجهت «دونالد ترمب» قبل وبعد وصوله لسدة الحكم في البيت الأبيض بسبب آرائه من الاتفاق النووي كان لإيران اليد الطولى فيها، وذلك من خلال اللوبي في أمريكا.. وفي هذا الجانب أشير إلى مقال نشر في صحيفة البيان بتاريخ 26 سبتمبر 2017، للكاتب الإماراتي الأستاذ عوض الدرمكي، تحت عنوان «اللوبي الإيراني في أمريكا كيف يعمل؟ ومن أين يستمد قوته؟» لنتبين كيف استطاعت حكومة إيران منذ عام 1973م تأسيس لوبي قوي ومؤثر في الولايات المتحدة الأمريكية، ألقى بظلاله على الإدارات الأمريكية السابقة.. إذ يقول: أسست إيران أول لوبي لها باسم «بيناد بهلوي» عام 1973م في الشارع الخامس بنيويورك، وبعد سقوط الشاه وقدوم الملالي، تغيّر الاسم إلى «بيناد مستضعفان»، ثم «بيناد علوي»، ويتبع مباشرة لمحمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني، والسفير السابق في واشنطن، كما تأسس لوبي المنظمة الأمريكية الإيرانية، ومن نشطائه البروفيسور شيانغ أمير أحمدي بجامعة روتجرز في نيوجيرسي، إلا أنّ رأس الحربة الرئيس هو المجلس الوطني الإيراني الأمريكي NIAC، والذي يترأسه الكاتب تريتا بارسي، تلميذ المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، والذي قام بدور هائل في قلب الطاولة في واشنطن، ليصبح الحليف عدواً، والعدو حليفاً، على مسرح الشرق الأوسط، ويضم المجلس اثنين من الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين؛ هما توماس بيكرينغ السفير السابق في إسرائيل، وجون يمبرت الذي احتجزه نظام الخميني كرهينة عام 1979م.

نجح المجلس في تنظيم الإيرانيين الموجودين على التراب الأمريكي لخلق قوة مؤثرة ناعمة، إذ يتجاوز عدد الإيرانيين والأمريكيين من أصول إيرانية في الولايات المتحدة مئات الآلاف، ويملكون قوة مالية تُقدَّر بـ(400) مليار دولار، وقاموا بتأسيس أكثر من (320) شركة كبيرة، ومساهمين في أكثر من (450) شركة نافذة أخرى، بينما تشير الإحصاءات الأمريكية الرسمية إلى أنّه يوجد ممن هم من أصول إيرانية (7000) طبيب و(1300) متخصص في العلوم البحثية والتطبيقية يعملون في المؤسسات الأمريكية.

لقد فهم اللوبي الإيراني تراتبية صنع القرار في أمريكا، وعرف كيفية التأثير فيها، ووفقاً لذاك الفهم وجّه الإيرانيين المقيمين لتخصصات بعينها تخدم الأجندة الخفية له، وتساعده للتغلغل في مراكز النفوذ المختلفة، فالإناث تم توجيههن للسيطرة على قطاعات التخطيط الإستراتيجي والتسويق والعلاقات العامة وأمن المعلومات والأرشيف والسكرتارية والاستشارات النفسية والتربوية، والشباب للتركيز على التقنية والعلاقات الدولية ومقارنة الأديان، ورجال الأعمال للدخول بقوة في شراكات في قطاعات الأسلحة والطاقة والأدوية والاتصالات والمواصلات، وشجع اللوبي الإيرانيين على الدخول في علاقات زواج من أبناء العائلات الأمريكية «الثرية» و«النافذة» لخدمة الأجندة الإيرانية بطريقة أكثر قوة، ومن الداخل! نجح تريتا بارسي من خلال طرح اللوبي وكتّابه لتصورات سياسية ودراسات استشرافية للشرق الأوسط، وبالانتقاء النوعي لبعض الأحداث، للخروج بنتائج تعميمية تؤيد النظرة السياسية الإيرانية للمنطقة، وبتنظيمه للعديد من اللقاءات مع المسؤولين الأمريكان وأعضاء الكونغرس والفعاليات التي تتم في الجامعات، ليس فقط في اختراق المؤسسات الرسمية ذات النفوذ، بل في اختراق «الوعي المجتمعي»، بتقديمه «العنصر الفارسي» كإنسان متحضّر ذي فكر منفتح وقريب من العقلية الغربية، لم يتم فهمه بطريقة صحيحة سابقاً، بسبب تشويه الحليف الحالي لأمريكا لهم؛ وهم عرب الخليج، وتحديداً السعودية، التي يركزون على نبذها تحت شعار طائفي مصطنع اسمه «الوهابية»، والتقت هنا الصورة النمطية التي رُسّخت من اللوبي الصهيوني ثم الإيراني، عن العربي بأنّه شخص غادر مخادع بربري جاهل، لا تُحرّكه إلا الشهوات والغرائز!

وفي لعبة الإعلام والتأطير هذه، نجح بارسي أيضاً في تسويق أنّ حلّ الأزمات السياسية في الشرق الأوسط لا يكمن في حل القضية الفلسطينية فقط، بل يعتمد على إيجاد «أرضية» توافق وثقة بين إيران وإسرائيل، وأنّ أي حل للأزمة السورية، لا يمكن أن ينجح دون أن تكون إيران على الطاولة كطرف رئيس، وسوّق لوبي «ناياك» صوراً لقاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، والذي يرفض بارسي اعتباره تنظيماً إرهابياً، وهو محاط بجنود «أكراد»، في ذات الوقت الذي ملأوا فيه الساحة بمقالات عن قيام «حزب الله» اللبناني بتسليح «المسيحيين»، لحمايتهم من «داعش»، التي يكرّرون أنها «وهابية»، لإلصاقها بالسعودية، حليفة أمريكا الحالية، ليقولوا للغرب: نحن شركاؤكم الموثوقون في محاربة الإرهاب، ونحن «حُماة» الأقليات المهددة في الشرق الأوسط!

وفي الفترة الحالية، يركّز بارسي على تمرير الرؤية الإيرانية للقضية السورية، لنسف بقايا الثقة الغربية بعرب الخليج، ويكرّر كثيراً تصوير التدخل الخليجي بأنه إستراتيجية «ضرب عصفورين بحجرٍ واحد»، من خلال دعم عرب الخليج، والسعودية تحديداً، لقوات المعارضة، والتي ستؤدي لنتيجتين، كما يقررها رئيس لوبي ناياك: الأولى أن الأصوليين الإرهابيين سيؤذون النظام السوري، فهو يتفق مع الملالي بأن المجرم بشار هو المرجعية الرسمية، والنتيجة الثانية أن سورية ستكون بؤرة للإرهابيين، ومكاناً للتخلص منهم بعيداً عن الداخل الخليجي، ووضعهم مباشرة أمام إسرائيل والأقليات المسيحية في سورية ولبنان، وهكذا يخسر الجميع، ويكسب السعوديون والعرب! إنّ الأفعى الإيرانية ليست موجودة في واشنطن فقط، بل أصبحت موضع ترحيب في بعض عواصم أوروبا نتيجة لإغراءات الاستثمار في إيران، ويكفي أنها حوّرت الصراع إقليمياً من صراع عربي-فارسي، إلى صراع ضد الإرهاب الملصق بنا فقط، وبالنتيجة نقول إن ما يواجه الرئيس الأمريكي الحالي اليوم من حملات شديدة ضد سياسته وقراراته الأخيرة أمر مؤكد بسبب هذا اللوبي، وغيره من لوبيات في عواصم غربية أخرى.. وما خفي كان أعظم.!

* كاتب سعودي.. و«مؤلف كتاب الإسلام في أمريكا الشمالية»