-A +A
صدقة يحيى فاضل
مئات الندوات عقدت، وعشرات المقالات كتبت حول العالم، عن تداعيات ونتائج انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران (اتفاق 1+5 لعام 2015م). حيث قدم بعض «المحللين السياسيين» رؤى مختلفة لتداعيات هذا الانسحاب، وشروع أمريكا في استئناف العقوبات الاقتصادية على إيران. قليل من هذه الرؤى أصاب الحقيقة. والواقع، أن الإعلام العربي بخاصة قد ابتلي بوجود جيوش من «المحللين السياسيين» الذين ربما تطلق عليهم هذه الصفة من قبيل المجاملة، لسببين رئيسين، أولهما: عدم امتلاك خلفية علمية للتحليل السياسي الحقيقي لدى معظمهم، وهرولة أغلبهم لكتابة «تداعيات» على مقاس من يريدون إرضاءه، سواء كان أنفسهم هم، أو غيرهم. وبمعنى آخر، يفتقر غالبية هؤلاء للموضوعية، وما ظهورهم إلا كظواهر صوتية (وكتابية) تبعث ضوضاء، وحسب.

ليت من يريد اقتحام مجال التحليل السياسي يسعى أولا لامتلاك الخلفية العلمية اللازمة، وأن يحاول الالتزام بالموضوعية، لأقصى حد ممكن، حتى لا تصبح «الحقائق» السياسية كأرقام بعض الإحصاءات... يمكن تفسيرها إيجابا، ويمكن تفسيرها سلبا. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. من حق أي مثقف، أو حتى متعلم، أن يكتب، ويتحدث، في مجال السياسة، أو في أي مجال آخر يراه. ولكن، يستحسن أن يهيئ نفسه لهذه المهمة، بما يجعل نتاجه في هذا الشأن ذا معنى. ويستغرب كيف يكتب البعض عن التسلح النووي، وهم لا يعرفون -مثلا- ما هو اليورانيوم، وما هي مشتقاته، وماذا يعنى تخصيبه؟! أو ما هو البلوتونيوم، وكيف يتم الحصول عليه؟! في البلاد المتقدمة يتصدى لهذه الأمور محللون استراتيجيون متخصصون في قضايا التسلح وحظر التسلح. حتى في إطار علم السياسة هناك تخصصات متفرعة، يجب أن تراعى.


وهذا لا يعني أن يحتكر الكتابة في السياسة المتخصصون في علمها فقط. فالسياسة هي الشأن العام... هي: الإدارة العليا للبلاد - أي بلاد. وبالتالي، يصبح من حق أي مثقف ومتعلم أن يتطرق لهذا الشأن، باعتباره أمرا يهمه، كما يهم بقية أفراد المجتمع. المهم، أن لا يكتب هراء. فالهراء يضل من يتلقاه، ويزعج من يتعرض له. علما بأن كاتب هذه الأسطر يقر بعدم قدرة أي محلل سياسي في معظم عالمنا العربي بأن يكون موضوعيا تماما. هذا مستحيل. لابد من شيء، ولو قليلا، من الهراء... وذلك ينطبق على أغلب من يكتبون في السياسة، بل كلهم.

***

ما يزعج المجتمع الدولي النزيه، بالطبع، هو انتشار الأسلحة النووية أفقيا ورأسيا. ويصبح هذا الإزعاج والقلق مضاعفا عندما تكون الدولة المصرة على امتلاك هذا السلاح لها سياسات توسعية عدوانية، يرفضها جيرانها، كحال إيران. وعندما نأخذ كامل الصورة والسياق الذي تلعب فيه إيران، نجد أن هذه المنطقة العربية ما زالت على صفيح ساخن، وما زالت إحدى الدول بها (إسرائيل) تمتلك سلاحا نوويا ضاربا، وما زالت الصراعات والحروب الطائفية فيها على أشدها. هل هدف الانسحاب أن لا يزيد طين المنطقة بلة؟! بعض القوى الدولية قد تجيب صادقة بـ«نعم». ولكن بعضها الآخر لا يصدق أحد أنه يريد وقف إيران حبا في أمن واستقرار المنطقة. إذ له مآرب أخرى، تكاد أن تكون معروفة لجميع المراقبين، منها الرغبة في ترجيح كفة معينة. ومن الحقائق المؤسفة -بالنسبة لمحبي السلام في العالم- كون إيران تمتلك المعرفة والتقنية والمنشآت النووية التي ستمكنها، عاجلا أو آجلا، من حيازة قنابل نووية. هذا إن لم تكن إيران تمتلك «القنبلة في القبو».

***

والآن، وعقب انسحاب أمريكا من هذا الاتفاق النووي، نجد عدة احتمالات (سيناريوهات) يمكن اختصار أهمها فيما يلي:

(1) بقاء الدول الخمس الأخرى في الاتفاق، والتزام إيران ببنوده، وتعايش إيران -في المدى الطويل- مع العقوبات الأمريكية. وهنا نتوقع تأجيلا في امتلاك إيران للقنبلة.

(2) بقاء الدول الخمس الأخرى، واستمرار التزام إيران بهذا الاتفاق، وانهيار نظام الملالي -في المديين المتوسط أو الطويل- بسبب العقوبات والضغوطات الأمريكية. ولو حصل هذا، وقام نظام سياسي جديد في إيران، فإن هذا النظام غالبا ما لن يتخلى -طوعا- عن الخيار النووي الذي أمسى هاجسا إيرانيا.

(3) انسحاب بعض أو كل الدول الخمس الأخرى، وانهيار الاتفاق تماما، ونجاح إيران في محاولاتها التعايش مع العقوبات الأمريكية والدولية، والمسارعة بامتلاك القنبلة... لتفاوض المجتمع الدولي بعد ذلك من موقف أقوى. وهنا، يتوقع حصول إيران على القنبلة في أقرب فرصة ممكنة.

(4) انهيار الاتفاق بانسحاب بعض أو كل أعضائه، ومسارعة إيران بامتلاك القنبلة... ولكن قيام أمريكا وحلفائها بمهاجمة إيران ومنشآتها النووية سيؤدي إلى انهيار نظام إيران السياسي الحالي، ودخولها في فوضى مدمرة. وفي ظل هذا السيناريو غالبا ما ستشارك إسرائيل في ضرب إيران، وسترد إيران على إسرائيل.

(5) قبول إيران بإعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي والصاروخي، والرفع التدريجي للعقوبات الأمريكية والدولية، والوصول إلى اتفاق جديد، أكثر صرامة وأمانا.

***

تلك هي أهم الاحتمالات، ومضمون معظمها مفزع، بالنسبة لأمن واستقرار المنطقة. وكما هو واضح، فإن السيناريو 5 هو «الأفضل» لكل الأطراف المعنية. وليته يتوج باتفاقية دولية شاملة لنزع السلاح النووي من كامل المنطقة، لتصبح منطقة خالية من الأسلحة النووية. ولكن الواقع الفعلي لسياسات القوى المؤثرة يرجح حصول الاحتمال الرابع. وهذا، إن حصل بالفعل، سيجعل هذه المنطقة تشهد كارثة جديدة، وقد يكون صيفها القادم هو الأسخن.