-A +A
محمد الساعد
في منتصف الثمانينات الميلادية أطلق «الأمير» سلمان بن عبدالعزيز معرضاً متجولاً في أوروبا تحت مسمى «معرض الرياض بين الأمس واليوم»، لقد كانت مبادرة رائعة وفكرة رائدة من «الأمير» وقتها الملك اليوم، فعَلت القوة الناعمة للسعودية الفتية ووظفتها لمخاطبة الشعوب وبناء صورة ذهنية عن المملكة وشعبها وتاريخها، لقد كانت نتائجها مذهلة ونجحت نجاحاً باهراً.

كانت الرياض حينها مدينة متوثبة قادمة من أعماق الصحراء تبحث عن موقع بين العواصم الكبرى في العالم، فهي إلى ما قبل 4 أو 5 عقود لم تكن تتجاوز مساحتها بضعة كيلو مترات، ثم انفجرت كمدينة تؤسس تمدنها الخاص منذ منتصف الستينات والسبعينات باتجاه الثمانينات، وما نراه اليوم في الرياض المدهشة العصرية المتوهجة كان نتيجة تخطيط وعمل «الأمير سلمان» لسنوات طويلة في تأسيس بنية تحتية عصرية لمدينة توسدت الرمال بلا روافد طبيعية تعينها على الحياة، لكنها استطاعت تسخير كل شيء من أجل بقائها وانطلاقها.


في تلك الفترة كانت السعودية تحت وطأة صورة نمطية جاهلة عن مملكة منزوية لا يعرف عنها شيء سوى ما تكتبه أقلام اليسار العربي العنصرية وإذاعات عرب الشمال المنحازة التي استوطنت أوروبا، أو الإعلام الغربي البعيد جداً عن فهم الشكل الاجتماعي للمملكة وعادات وتقاليد أهلها، إضافة إلى أنهم افتقدوا بالكلية مصادر معلومات حقيقية تساعدهم في اكتشاف ما لبس عليهم.

ما فعله الأمير الإداري المحترف والمثقف والقارئ النهم «سلمان بن عبدالعزيز» وصديق الإعلام والكتاب هو أنه نقل تجربته في بناء مدينته الرياض ومن بعدها السعودية كاملة من كتب التاريخ ومقالات المعلقين إلى ميادين ومتاحف ومسارح العواصم الأوروبية، كان يقصد أن يحدث الصدمة والدهشة والتغيير في عقل الإنسان الغربي قبل أن يستسلم للصور التي يبثها إعلامه المنحاز دوماً ضد كل ما هو عربي وخليجي على وجه الخصوص.

كانت البداية من ألمانيا أكثر العواصم الأوروبية خشونة في موقفها من الرياض، دبلوماسيتها دائماً صعبة المراس ونظرتها نمطية، لينتقل لعدة مدن أوروبية ليكمل رحلته في قلب العالم الغربي.

كان معرض الرياض يحمل بين سماته مظاهر ثقافية وحضارية ومعمارية وتاريخية عن السعودية وأبنائها، فالبشر كانوا وما زالوا عند «سلمان» مقدمين على الحجر ثم يأتي بعده كل تلك النهضة الكبرى التي شيدها وأشرف عليها الإنسان في المملكة.

لم تعد السعودية مجرد صورة رومانسية لبدو رحل يحملون رحالهم فوق الجمال ويتجولون على خيولهم في الصحراء وينظرون للنجوم تحت ظلال النخيل، بل هم من بنى تلك المدن والجامعات والمستشفيات الحديثة والمطارات الدولية وانطلقوا نحو الفضاء.

جاب المعرض دول أوروبا ومعه الفنانون والرسامون

والنحاتون، كانت الرقصات الشعبية حاضرة تحمل الأهازيج المحلية المتنوعة، كان اللباس والمطبخ السعودي موجوداً بكل تفاصيله وذائقته الفريدة، لا شك أنه حقق عبر قوته الناعمة صدمة إيجابية في الشارع الأوروبي.

على هامش المعرض أقيمت العشرات من المحاضرات والندوات، وحظي بتغطيات واسعة وحضر إليه ملايين من الأوروبيين.

اليوم وعلى بعد أكثر من 25 سنة على ولادة معرض الرياض بين الأمس واليوم، تستشعر السعودية من جديد أهمية بناء قوة ناعمة تناسب العصر وتكافح حروب التشويه والمؤامرات، من خلال مؤسسة «مسك الخيرية» التي تحولت إلى ذراع متقدمة داخل الأوساط والمجتمعات الغربية، وحاضنة حقيقية للأفكار.

لننظر إلى ما قبل أسابيع قليلة كيف تحولت القاهرة ولندن وواشنطن وباريس ومدريد خلال زيارة الأمير «محمد» إلى حواضن لأحلام وإبداع الشباب والشابات السعوديين، لقد استلهمت مسك معرض الرياض بين الأمس واليوم الذي بناه الملك سلمان وقدمت الرؤية والانفتاح السعودي في صورته الحديثة المتوازنة التي يطرحها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على قاعدة تقدم تكنولوجي وحضاري واقتصادي وجودة حياة وتمدن لا يفقد الهوية بل يبني عليها ويرسخها.

* كاتب سعودي

massaaed@

m.assaaed@gmail.com