-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عملي الجديد يفرض عليّ التنقل، والذهاب من مكان إلى مكان، كموزع الرسائل، أو رقاص الساعة كما يقولون، أقطع مسافات لا حصر لها حسب مزاج العمل، وصلت صباح الجمعة إلى (باريس) أديت صلاة الجمعة في مسجد في (باريس)، كان الإمام من دول المغرب العربي، رجلا أربعينيا أنيقاً في زي أفرنجي كامل، وربطة عنق زاهية الألوان، يرتدي طاقية مغربية حمراء، شعره فضي، يظهر من تحت الطاقية كباقة من الأقحوان حاصرها الثلج، كان طويلاً أطول من التاريخ، وعميقاً أعمق من التراث، كان يتحدث بصوت هادئ خفيض، كان يحمل للمصلين رياحا طيبة في شكل خطبة، وكان يرمي لنا بحفنة منها، عالم من الجمال، حزمة ورد أبيض يقطفها من حديقة عامرة ويقذف بها إلينا، ياسميناً، وقرنفلاً، وجوريا، أظنني بالغت في الوصف، لكنها الحقيقة، لأنه فعلاً كان خطيباً راقياً، يتحدث بلغة عصرية حضارية، بئر يمد الجميع بالعسل، كان مبتكراً في خطبته وله طرق فنية في نقش الذهب في القلوب، كانت خطبته كالطير الذي يظهر عندما ينضج الرمان، يحدث ثقباً في الرمانة ويختفي، يغرد ويغرد والضوء يصير ضوءين، ضوء يوم الجمعة المباركة، وضوء الخطبة الممتع، والضوء يتوهج حتى بعد انتهاء الصلاة، ويتلألأ كتغريدة في الضوء، كعقد من الماس، كنت أفكر وأنا أغادر المسجد، كيف أن خطيباً، يستطيع أن يصنع يومك، يحلق بالخطبة لحد الكمال، لا يجعلك تحتاج في يومك أكثر مما قال، يحيي فيك الأمل، يشد ظهرك لتستقيم الحياة، يذهب بك إلى آخر يوم، إلى آخر ساعة، يختفي بعد الصلاة، تختفي حنجرته، وصوته الخفيض، ويبقى ما قاله يملأ الرأس، تبقى رسالته مكانها حيث تركها، الأسبوع الذي يليه كنت في (لندن) ذهبت لصلاة الجمعة، كانت الشمس تطل من بين الغيوم السود، ليس لتدفئة الأرض، وإنما لتعتذر عن الظهور المارق، واختفت في اللحظة التي وصلت فيها للمسجد، واستمرت الغيوم الثقيلة نفسها، وأصبح الظهر بعد اختفائها يشبه بداية ليل رمادي، ظهر الخطيب السبعيني المظهر، يرتدي نظارة سوداء، وجه أبيض مصفر قليلاً في لون الشمع لا يجري فيها الدم، تحيط بالعيون خطوط من التجاعيد كأعشاش العناكب، إضافة إلى التجاعيد الأخرى الزرقاء المحفورة عميقاً على اليدين، كان يقف على المنبر كالعصا اليابسة، رغم بطنه المنتفخة بصورة غير خلاقة بالمرة ظهر بوضوح من خلف جلبابه الضيق الذي يرتديه، كان يتحدث بحزن مصطنع وبصوت باكٍ على أحوال المسلمين، ولو أنني لم أر دموعاً حقيقية، لكنني تخيلت دموعاً، كان يتحدث عن الانحراف الذي انتشر بين صبية المسلمين، وكأن جميع أبناء المصلين ديوك تطارد الدجاج في لندن، وكيف أن هؤلاء الصبية أصبح اللاعبون قدوتهم وليس السلف، كان قاسياً كعادة بعض الخطباء الذين لازمتهم صفة قمع الدنيا منذ عرفوا الدنيا، كان يتحدث بصوت مرتفع هادر كأنه يتحدث إلى مصلين أصابهم الصمم، كان يتحدث وكأن كل الناس مشغولون بالخطايا، ولن تكفي مساجد الأرض كلها لغسل تلك الخطايا، رجل ضحية وسواس قهري مشؤوم، تمكن منه وليس من السهل اقتلاعه، رجل مصاب (بكلل المخ) والذي يسلب المريض حاضره ومستقبله، كان المصلون صامتين يهزون رؤوسهم كأنهم يتابعون قصة لا تُفهم ولا أهمية لها، ويستمعون إليها مع ذلك كتلميذ مجتهد، كان يعرج في الكلام ذلك العرج الذي يصيب الفرس العجوز من جراء حصاة علقت بحافره وعجز عن التخلص منها، تركته بعد انتهاء الصلاة وكأنني عائد من جنازة مضى عليها نصف قرن، أحياناً الأمنيات تريح إلى حين وتسكب المواساة والسلوان على القلب المحروم من الفرح، ولهذا فهي حيلة بقاء، وحل متاح لمن دارت به الظروف وتورط في شخص، وحتى لو كانت الأمنية مستحيلة التحقيق، فإنها تظل نافذة واسعة تسمح بالهروب من الواقع الخانق، في العاشرة من عمري كانت أمنيتي المستترة، المستحيلة المريحة، هي أن أصحو يوماً من نومي الطفولي، فأسمع من يقول لي، الأستاذ (توفيق) مدرس الرياضيات ترك المدرسة، هذه هي أمنيتي المستترة المريحة، التي كانت وأنا أودع المسجد، أن أعود إلى (لندن) ولا أجد ذلك الخطيب، أمنية لا أكثر كتعويض لائق عن الضرر الذي لحق بي، فهذا الإمام مسلم سالب في مدينة معظم مسلميها موجبون!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com