-A +A
طارق فدعق
قد يكون هذا المقال هو الأعلى والأسرع بين جميع المقالات في صحفنا اليوم. وتحديداً فقد تمت كتابته على ارتفاع نحو 10 كيلو مترات وبسرعة نحو 240 متراً في الثانية الواحدة بداخل طائرة ايرباص من طراز 330. وخطرت على بالي المنظومات المختلفة أثناء سيرنا السريع وبالذات موضوع السباكة.. بعيداً كل البعد عن «بيت الماء» أو «الطهارة» أو «دورات المياه» في الطائرة. تخيلت تعقيدات الأنابيب المعدنية والمطاطية وغيرها التي تحمل الهواء المضغوط الحار والبارد من المحركات لتشغيل بعض أنظمة الطائرة.. والأنابيب الأخرى التي تحمل زيت (الهيدروليك) المضغوط بمقدار ألف مثل الضغط بداخل كفرات سيارتي؛ قمة الإبداع. ومن المنطقي أن أقرب وأسهل نقطة بين نقطتين هي الخط المستقيم.. لا يوجد أفضل من «الدوغري».. ولكن السالفة هنا هي أن معظم تلك الأنابيب لا تسلك خطوطاً مستقيمة. فالخطوط الدوغري ستجدها على الورق، وأما على الطبيعة فستجد أنها نادرة. وبمناسبة الحديث عن الطبيعة ففضلاً تأمل في روائع منظومة السباكة في جميع الأشجار حولك. كيف يصعد الماء بشكل مستمر من التربة عبر الجذور إلى أعلى الشجر.. لن تجد مسارات «دوغري» هنا أيضاً. ولكن الموضوع لا يقتصر على الأرض فحسب، ففي البحر ستجد ما يدلك في هذا الشأن. من الصعب أن نجد ما يتفوق على سباكة بعض المخلوقات البحرية وفي مقدمتها الحبارة وأقرباؤها مثل الأخطبوط. أنعم الله عليهم بنظام دفع يمنحهم سرعات رهيبة وإن كانت لفترات زمنية ضئيلة. وهي من الأنظمة «النفاثة» النادرة في الطبيعة. عند اللزوم تنفث الحبارة كمية صغيرة من الماء وبضغط وسرعة عاليين، مما يحرك الكائن في الاتجاه المعاكس بسرعة عالية جداً للهروب من المخاطر. والسبب أن هذا الأسلوب في الحركة لا يستخدم إلا لفترات قصيرة؛ لأنه مكلف جداً في استخدام الطاقة. وقد نتخيل أنها قمة الإبداع، ولكن أروع هندسة للسباكة سنجدها بداخلنا؛ ففي كل نفس نسحب كمية من الهواء تتبلور من خلالها قدرات الخالق العجيبة في منظومة تنفسنا ودورتنا الدموية. وتدفع قلوبنا في كل ثانية ما يعادل نحو 1% من اجمالي أحجامنا.. ربما أكثر قليلاً عندما نفاجأ بوصول إشعار مخالفة «ساهر».. أو فاتورة جوالاتنا، أو ما شابههما. والمعلومة الأغرب من الخيال هنا هي طول الأنابيب في دورتنا الدموية.. تعادل المسافة من وسط البلد في جدة إلى وسط نيويورك.. ثم شرقاً إلى وسط طوكيو.. وعودة إلى جدة.. وكمان لفة.. وأكثر.. أغرب من الخيال. ووسط كل هذه العجائب، لن تجد أية أوعية دموية تسير «دوغري».

أمنيــــــة


أتمنى أن لا يفهم مما جاء أعلاه أن الخطوط المستقيمة لا قيمة لها. فضلاً تأمل في الخطوط المستقيمة حولك الآن وستلاحظ أنها مهيمنة على حياتنا، وبالذات في المباني.. سواء كانت من الداخل أو الخارج.. في الفتحات المختلفة من نوافذ، وأبواب، وأعمدة. ولكن للأسف أن ندرة مبدأ «الدوغري» تتبلور في العلاقات الإنسانية، وبالذات في السياسة بين الدول اليوم. تأمل كم من البشر لا يتقيدون بالتعاملات المستقيمة، بل وحتى بعض الدول تلجأ إلى لوي الحقائق.. يعني «اللولوة» في التعامل.. يعلنون الإخاء، والمحبة، وبداخلهم الحقد والكراهية. وهذا كلام «دوغري». الله يقينا شرورهم، وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي