-A +A
طلال صالح بنان
من مظاهر السيادة إقامة الدولة علاقات دبلوماسية، مع الدول والمنظمات الدولية الأخرى. وإن كانت إقامة السفارات والقنصليات الدائمة في عواصم الدول الأخرى ومدنها، تقليداً حديثاً تطور مع الدبلوماسية الجماعية بعقد مؤتمرات القمة، التي واكبت ظهور الدولة القومية الحديثة في مؤتمر صلح وستفاليا ١٦٤٨.. وتعزز في ما بعد باتفاقية فينا ١٨١٥ عقب هزيمة نابليون في معركة واترلو.. واكتمل بوضع إطاره السياسي والقانوني الملزم، مؤخراً، في اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية (١٨ أبريل ١٩٦١). إلا أن مبدأ ومفهوم السفارة نفسه، بما يحويه من قيم وممارسات احترام العمل الدبلوماسي، تتعلق بامتيازات وحصانات السفراء لضمان حمايتهم، ومن ثَمّ، كفاءة وفاعلية عملهم، قديم قدم تاريخ العلاقات الدولية، في ما عُرف بالدبلوماسية المتنقلة، التي كانت تأخذ شكل البريد الدبلوماسي بين قادة الدول.

في المقابل: أيضاً، من ممارسات السيادة للدولة تقليص أعداد دبلوماسيي الدول الأخرى في أراضيها، وإنهاء إقامتهم بها.. بل وإغلاق سفارات وقنصليات الدول الأخرى فيها، في حالة تعليق أو قطع العلاقات الدبلوماسية معها. وإن كانت إقامة العلاقة الدبلوماسية مع الدول الأخرى تعني اعتراف الدول ببعضها، فقطع العلاقات الدبلوماسية لا يعني إنهاء اعتراف الدولة بالدولة التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية معها. بينما يقتضي العرف الدبلوماسي عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدول بمبادرة الدولة التي قطعت العلاقات ابتداء، وإن كان يقتضي ذلك - في كل الأحوال - عقد اتفاق ثنائي بين الدولتين المعنيتين بإعادة العلاقة الدبلوماسية بينهما.


وإن كان قطع العلاقات الدبلوماسية يعني: وضع حدٍ للعلاقة الطبيعية والرفيعة بينهما، ولو مؤقتاً حتى تزول أسباب القطيعة الدبلوماسية، فإن التعبير عن تدهور العلاقة بين الدولتين، لا يحتاج بالضرورة إلى اللجوء لقطع العلاقة الدبلوماسية بينها. دبلوماسياً: فإن التوتر في العلاقة بين دولتين أو أكثر يمكن أن يطال إجراءات ما دون القطيعة الدبلوماسية بينها، تبدأ من سحب السفراء، كثيراً ما يُبرر بالتشاور تفادياً للتصعيد، إلى طرد السفير نفسه.. وتخفيض مستوى التمثيل لما دون مستوى السفارة، للمفوضية.. أو قائمية بالأعمال.

في كل الأحوال: يكون مثل ذلك السلوك المعبر عن توتر العلاقة بين الدول، يأخذ بقاعدة: المعاملة بالمثل. فكل إجراء من تلك المواقف، يستلزم عادةً: إجراء مماثلاً متساوياً، ما عدا في حالات نادرة، بدواعي التصعيد.. أو تفادي التصعيد، وفقاً لما يراه القائمون على السياسة الخارجية للدولة. في حالة التصعيد، ممكن الرد على إجراء سحب السفير، بطرد سفير الدولة التي سحبت سفيرها، من قبل الدولة المضيفة له. في حالة عدم الرغبة في التصعيد، لا تلجأ الدولة التي سحب سفيرها من أراضيها، للإقدام على نفس الإجراء، فتبقي على سفيرها في الدولة التي سُحِب سفيرها من أراضيها. فالمسألة، في النهاية سياسية، فيها الكثير من تقدير الموقف من الناحية السياسية، أكثر منه مسألة «كرامة» وطنية، كما يمكن أن يدل عليه مبدأ المعاملة بالمثل.

في الفترة الأخيرة، نشبت أزمة دبلوماسية بين بريطانيا وروسيا، بسبب اتهام بريطانيا لروسيا، بتسميم العميل الروسي المزدوج السابق (سيرجي سكريبال) وابنته (يوليا) في أراضي المملكة المتحدة. بسبب هذا العمل الذي اعتبرته بريطانيا عدائيا، أقدمت لندن على طرد بعض الدبلوماسيين الروس. وتفادياً للتصعيد لم تقدم موسكو على إجراء فوري مماثل، حتى اتسعت عملية طرد الدبلوماسيين الروس، تضامناً مع بريطانيا، لتشمل دولا غربية عدة. الملاحظ هنا في هذه الحركية المتبادلة لاستخدام آلية طرد الدبلوماسيين، لم يتم بسبب إساءة أولئك الدبلوماسيين وتجاوزهم لمهمات عملهم الدبلوماسي المتعارف عليه، بل جاء بمثابة عقاب أو رد فعل عقابي لاتهام دولة بممارسة عمل معادٍ، بوصفه عملا جنائيا وغير أخلاقي معاً، له أبعاد إستراتيجية خطيرة، مَس السيادة البريطانية على أراضيها وأمنها.. وارتكب جرماً يعاقب عليه القانون البريطاني.

هذا السلوك التضامني مع الموقف البريطاني من قبل حلفاء بريطانيا في معاهدة حلف شمال الأطلسي يضفي بعداً سياسياً للأزمة بخلفياته الإستراتيجية المُحتملة، بتعريض أمن دولة في حلف شمال الأطلسي للخطر، باستخدام غاز محرم دولياً للتخلص من مواطن متهم بالجاسوسية، من قبل الاستخبارات الروسية. هذا الإجراء التضامني مع بريطانيا، من قبل حلفائها الإستراتيجيين في الناتو يعيد للنظام الدولي، حالة الصراع السرمدية بين الشرق والغرب، التي ظن الكثيرون أنها توارت بعد انهيار نظام الحرب الباردة. فبريطانيا التي خرجت من المنظومة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، نراها تلقى تضامناً دبلوماسياً وسياسياً من الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي، ومن الولايات المتحدة وكندا.

لقد وجدت إدارة الرئيس ترمب في الأزمة ما يبدو أنه مخرجٌ لما يُثار بسبب تدخل الروس المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لإبعاد شبح تواطؤ حملة الرئيس ترمب الانتخابية مع الروس، بالتلاعب بأصوات الناخبين الأمريكيين، في تلك الانتخابات.. بل إن واشنطن زادت من إجراءات المقاطعة الدبلوماسية مع موسكو، بغلق القنصلية الروسية في سياتل. ورد موسكو على ذلك بغلق قنصلية الولايات المتحدة في سان بطرس بيرغ.

وتبقى، في كل الأحوال، وضعية العلاقات الدبلوماسية بين الدول «الترمومتر» الأهم الكاشف عن مستوى العلاقات بين الدول.. والمقياس الأكثر إظهاراً لحالة طبيعية العلاقة بين الدول، من غيابها أو عدمها.

* أستاذ وكاتب سعودي

talalbannan@icloud.com