-A +A
هاشم عبده هاشم

* حلول عملية.. لعودة السلام والاستقرار إلى المنطقة.. وطرد الغرباء منها

* زيارة أمريكا.. دفنت المخاوف.. وصححت المفاهيم الخاطئة.. وفتحت الأبواب المغلقة


* نعم لإخراج إيران من دول المنطقة.. ونعم لتغييرات جذرية على الاتفاق النووي



•• تمثل زيارة الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع منعطفاً هاماً في العلاقات الثنائية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية.. لما سيترتب عليها من نتائج على درجة كبيرة من الأهمية في تنفيذ رؤية المملكة (2030) وترجمتها إلى واقع ملموس.. يقود إلى التغيير المنشود لبلد يستحق أن يكون سبباً في إحداث نقلة نوعية في منطقة الشرق الأوسط من الأزمات والكوارث والانتكاسات والحروب والصراعات إلى الاستقرار.. والتقدم.. والتنمية.. والرفاء. وهو التحول غير الهين أو السهل أو الفوري.. لما يعترض الطريق من عقبات.. وصعوبات.. قد تكبر أو تصغر حسب مدى قدرة الشعوب على تحمل هذه المرحلة المبكرة من العمل بكل ما يواجهها من تحديات.. وضغوط.. وما تتطلبه من تضحيات كبيرة من الشعوب قبل الحكومات.. شأننا في ذلك شأن كافة شعوب الأرض التي شهدت مراحل تغيير حقيقية في حياتها.. وتحملت تبعاتها بكل اقتدار.. وأصبحت اليوم في المقدمة.. ومن تلك.. الصين.. واليابان.. وبعض الدول الإسكندنافية.. أيضاً.

•• وترجع أهمية زيارة سموه لأمريكا إلى ما تميزت به من تغطية شاملة لكافة الأوجه.. السياسية منها.. والعسكرية.. والاقتصادية.. والأمنية.. والثقافية.. والترفيهية.. ولما خرجنا به من اتفاقيات وتعاقدات.. على درجة كبيرة من الأهمية.. وعلى كافة الأصعدة.. وبما يتفق مع صورة المستقبل الذي يحلم به الأمير.. وتتطلع اليه أجيالنا الجديدة..

•• ولا أظن أن هناك مراقباً واحداً.. في هذا العالم، لم يلفت انتباهه هذا القدر الكبير من اللقاءات والاجتماعات التي عقدها الأمير مع أساطنة السياسية.. والمال.. والأعمال.. والتكنولوجيا.. للخروج بمجموعة من الاتفاقيات والعقود والبرامج والاستثمارات الضخمة سواء في المملكة العربية السعودية أو في داخل أمريكا نفسها.. وعلى مدى ثلاثة أسابيع.. زار خلالها الأمير الشاب كلاً من واشنطن ونيويورك وسياتل وكاليفورنيا وهيوستن.. وأنجز في كل منها الكثير مما خطط له.. وتابعه.. بإتقان شديد.. ومبهر..

- على المستوى السياسي:

•• لم يكن قرار الرئيس الأمريكي بإقالة وزير الخارجية السابق (تيلرسون) وتعيين رئيس المخابرات الامريكية (مايك بومبيو) بدلاً عنه، ولذلك تعيين (جون بولتون) رئيساً للاستخبارات الأمريكية.. لم يكن هذا القرار قبل زيارة الأمير محمد بن سلمان بعدة أيام مفاجئاً لأي مراقب سياسي.. تابع حالة التعارض والتناقض والاختلاف بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية وبالذات تجاه قضايا المنطقة الحساسة.. وفي مقدمتها التدخلات الإيرانية السافرة في شؤون دول المنطقة وتمددها المتواصل بدءا بلبنان وانتهاء باليمن ومروراً بالعراق وسورية.. وسواها..

•• هذا التغيير.. وفي هذا الوقت بالذات أعطى الانطباع بأن إدارة الرئيس ترمب.. ملتزمة بما تعهدت به لشركائها في المنطقة بالعمل معاً على إيقاف الممارسات الإيرانية ليس فقط ضد دولنا وشعوبنا وإنما المهددة للأمن والاستقرار في العالم أجمع من خلال استغلالها للاتفاق النووي الموقع مع الدول (5+1) وإنتاجها للأسلحة المحرمة دولياً.. وتهديدها لأمن المملكة وسلامتها -بصورة أكثر تحديداً- بإرسال صواريخ باليستية فوق المدن السعودية عن طريق أداتهم الرئيسية في اليمن «الميليشيات الحوثية».

- تحديد الموقف الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران

ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس (ترمب) حدد يوم 12/‏‏مايو/‏‏2018م موعداً للإعلان عن موقف بلاده النهائي من هذا الاتفاق.. وهو ما كان يعارضه وزير الخارجية السابق صراحة.

•• وسواء انطوى هذا الإعلان عن إلغاء أمريكا لتوقيعها عليه أو كان باتخاذ تدابير أخرى توقف معها تلك التجاوزات الإيرانية الصارخة.. فإن الإدارة الأمريكية -وبكل تأكيد- قد اختارت هذا التوقيت المتزامن مع زيارة الأمير محمد بن سلمان تعزيزاً للشراكة الوثيقة بين البلدين وللتعاون المتنامي أيضاً.

•• ومن المؤكد أن لقاء الأمير بالرئيس في 20 مارس 2018م وما بعده من لقاءات أخرى معلنة أو غير معلنة قد تناولت هذا الموضوع من جميع جوانبه.. وإن البلدين باتا أكثر اتفاقاً من أي وقت مضى على ضرورة المواجهة الجادة للخطر الإيراني على المنطقة وكذلك على الأمن والسلم الدوليين.. بدليل ما صدر - بعد ذلك وخلال الزيارة من تصريحات عن المتحدث الرسمي بوزارة الخارجية في هذا الشأن.. وبلغة غير مسبوقة تتصف بالحزم وبالقوة المطلوبين لردع إيران والحد من خطرها بشتى الطرق.

•• وبالتأكيد.. فإن الأمير محمد.. قد أعطى الكثير من وقته واهتمامه في لقاءاته بأركان الإدارة الأمريكية.. مثل نائب الرئيس (مايك بنس) ووزير الدفاع (جيمس ماتيس) ووزير الخزانة (ستيفن منوشين) وغيرهم للقضايا السياسية والأمنية الملحة في المنطقة.. وهي قضايا شائكة ومعقدة ومهمة.. مثل قضية السلام بين العرب وإسرائيل.. ووضع القدس النهائي.. والوضع في سورية ولذلك الوضع في اليمن.. وفي دول المنطقة الأخرى.. وعلينا أن ننتظر ما أسفرت عنه هذه اللقاءات لأنها تمر الآن بمرحلة البلورة بين واشنطن والرياض.. ونتوسم أن تؤدي إلى نتائج إيجابية تصبُّ في قناة العمل الدؤوب الذي نقوده الآن لإعطاء الفرصة للحلول السياسية.. بشرط توقف جميع الحروب.. وتجنيب المنطقة المزيد من النزف المتواصل والعمل من أجل إعادة البناء والتنمية للأوطان التي هدمتها الحروب.. ودمرها الاقتتال وشتت الشعوب في كل أرض..

- استمرار الأسد المؤقت.. مرهون بمغادرة إيران لسورية

•• لكن ذلك لن يتحقق بسهولة.. وإن كان على الجميع أن يقدم الكثير من التنازلات تحقيقاً لهدف الاستقرار.. لأن لا مصلحة لأحد في استمرار الأوضاع على ما هي عليه الآن..

•• ففي سورية مثلاً.. فإن وأن استمر (الأسد) لبعض الوقت في السلطة إلا أن على إيران وغير إيران أن يرحلوا عنها لاتفاق جميع المشاريع الخطرة التي ترسم هناك.. ولا سيما مشروع إيران الرامي لفتح طريق يربط إيران بسورية مروراً بالأراضي العراقية لإقامة (الهلال الشيعي) وهو المشروع المرفوض كما قال الأمير محمد بن سلمان في حديثه مع (مجلة التايم الأمريكية) أثناء وجوده في مدينة نيويورك..

•• أما بالنسبة لليمن.. فإن المملكة وبقية دول التحالف وإن كانت حريصة على تغليب العمل السياسي في الفترة القادمة.. وأنها والولايات المتحدة الامريكية تدعم جهوده المبعوث الدولي الجديد البريطاني (مارتن غريفيث) لتحقيق ذلك فيه.. إلا أنها ليست مستعدة لتفرد «الحوثيين» بالسلطة فيه.. ما دام أن هناك قرارات دولية تحدد مستقبل السلام فيه وفي مقدمتها القرار (2216) ومبادرة السلام الخليجية ومخرجات الحوار الوطني بين اليمنيين أنفسهم..

•• وبالتالي فإن المملكة ودول التحالف -وهذا ما قاله الأمير للأمريكان- سوف لن تقبل بأي تسوية تبقي على نذر التهديد لها.. ولشبه الجزيرة العربية ودول الخليج العربي.. وعلى إيران أن ترحل من اليمن هي وأدواتها الأخرى وفي مقدمتهم حزب الله.. وأن يتحول الحوثيون إلى جزء من منظومة في الكيان السياسي اليمني تستظل بنظام شرعي يقبل به اليمنيون ويجسد وحدتهم الكاملة ويحول دون تجزئة البلاد وتقسيمها.. ويطرد أشباح الحرب الأهلية من بلادهم.. ويعزز وحدتهم الوطنية.

•• وفي هذا الاتجاه فإن زيارة الأمير لأمريكا لم تكتف بما دار بينه وبين المسؤولين الأمريكيين من نقاشات.. ومن تفاهمات.. بل أتبعها سموه بلقاءات رفيعة مع العديد من أعضاء الكونجرس الأمريكي وما تطارحه معهم من آراء.. وما تبادله من مقترحات وفرت الأرضية المناسبة للقبول بمجموع الأفكار التي طرحتها المملكة وترى فيها مخارج حقيقية وحلولاً عملية سواء في التعامل مع قضية فلسطين.. أو الوضع في سورية.. أو اليمن..

- وضع مجلس الأمن أمام مسؤوليته تجاه قضايا المنطقة

•• كما أن اجتماع الأمير محمد.. بالأمين العام للأمم المتحدة (في 27 مارس 2018م) وأن ركز على الدعم الإنساني الذي قدمته المملكة ودولة الإمارات لليمن والبالغ مليار دولار.. إلا أنه تناول تلك القضايا.. وأكد الدعم المطلق لممثل الأمم المتحدة في كل من اليمن.. وسورية.. للوصول إلى حلول سياسية تعود إلى السلام المنشود.. دون سواها.

•• ولأن الأمير يُدرك أن الأمم المتحدة بحاجة إلى دعم ومؤازرة كافيين لتحقيق هذه الغاية.. فإن الأمير محمد.. حرص أيضاً على الاجتماع بممثلي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.. وتبادل معهم وجهات نظر غاية في الأهمية بشأن تلك القضايا الشائكة للحيلولة دون الاختلاف على أي قرارات.. أو إجراءات تتخذ في المرحلة القادمة لتطويق الأوضاع المتفجرة في فلسطين واليمن وسورية.. وتوفير الحد المطلوب من الاتفاق وعدم استخدام الفيتو ضد تلك التوجهات الرامية إلى تحقيق السلام في المنطقة.

•• صحيح أن لكل دولة مصالحها الخاصة.. وأن موقفها يتوقف على مدى تحقق تلك المصالح في مناطق الصراع.. لكن الأكثر صحة هو أن الاستقرار وعودة السلام في منطقة الشرق الأوسط وليس غيره كفيل بتحقيق مصالح الجميع.. وأن مصالح أي دولة مع إيران.. أو في سورية.. أو اليمن.. وغيرها ستظل معرضة للخطر إذا لم تتغلب إرادة البحث عن السلام على قراءة جميع الدول الخمس.. بمن فيها الدول الموجودة في سورية.. واليمن.. أو في العراق.. ولبنان.. وغيرها..

•• بهذا المنطق.. تحدث الأمير محمد بن سلمان مع ممثلي الدول الخمس.. ولديَّ قناعة تامة بأن الدوائر المختصة في كل دولة تتدارس الآن تقارير ممثليها في مجلس الأمن بعد لقائهم المشار إليه مع الأمير محمد.. لأنه كان لقاءً عقلانياً.. وواقعياً.. وبراجماتياً.. ومباشراً.. وجاداً.. بكل ما يشكله ثقل المملكة عند كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا.. وغيرها من دول العالم الأخرى.. قياساً إلى حجم مصالحنا معها ومصالحها معنا أيضاً مقارنة بمصالحهم مع دولة مثل إيران ومن لف لفها..

- موقفنا من قضية السلام بالمنطقة

•• إذا كان هناك من موقف واضح ومحدد وشفاف قد عكسته هذه الجولة الهامة تجاه العديد من القضايا الحساسة في منطقة الشرق الأوسط في غيرها من هذا العالم.. فإنه قد برز وبقوة من خلال حديث الأمير الشاب مع رئيس تحرير مجلة «اتلانتيك» الأمريكية عن القضية الفلسطينية وعملية السلام مع إسرائيل ومستقبل المنطقة المرتقب.. دون مواربة.

•• فلقد كان الأمير صادقاً مع أمته.. قبل أن يكون صريحاً.. وواضحاً.. وشفافاً مع الآخرين.. عندما ربط أي شكل من أشكال العلاقة المستقبلية مع إسرائيل بضرورة التوصل (أولاً) إلى معاهدة سلام منصفة وعادلة وغير مجحفة بحق الشعب الفلسطيني..

•• فهو عندما سئل: «هل تعتقد أن الشعب اليهودي له الحق في أن تكون لديه دولة قومية في جزء من موطن أجداده؟ أجاب سموه:

•• أعتقد -عموماً- أن كل شعب، في أي مكان، له الحق في العيش في بلده المسالم. وأن الفلسطينيين والإسرائيليين لهم الحق في امتلاك أرضهم الخاصة لكن يجب أن يكون لدينا اتفاق سلام عادل ومنصف لضمان الاستقرار للجميع ولإقامة علاقات طبيعية بين الشعوب»

•• قال هذا الأمير انسجاماً مع مبادرتي السلام العربيتين في قمة فاس عام (1982م) والقمة العربية في بيروت عام (2002م) وتجسيداً لمبدأ الأرض مقابل السلام ومبدأ قيام دولتين مستقليتين لكل من الفلسطينيين واليهود على حدود ما قبل 1967م.. ولا مدخل لأي مزايد بعد ذلك أو قبله.

•• والفارق الوحيد بين ما قاله الأمير محمد بن سلمان.. وبين ما يقوله غيره من القادة والزعماء الآخرين وغيرهم.. هو أن الأمير تحدث بلغة خطاب مباشرة مع الغرب ورد على كل الاتهامات التي تصم العرب بأنهم غير جادين في عملية السلام.. بينما كان الآخرون يخاطبون عواطف العامة بلغة غير لغة السياسة واللقاءات المغلقة والحوار الجاد والبناء في إنجاز عملية سلام توقف المزايدات ودفع المزيد من الأثمان.. وتحول دون عقد الكثير من الاتفاقيات السرية المخلة بحقوق الشعب الفلسطيني والمتاجرة فيها..

•• لقد أكد الأمير للمجلة عندما سألته: هل لديك اعتراض على أساس ديني بشأن وجود إسرائيل؟ بقوله: «أؤكد أن لدينا مخاوف دينية حول مصير المسجد الأقصى في القدس وحول حقوق الشعب الفلسطيني.. هذا ما لدينا.. ليس لدينا أي اعتراض على وجود أي أشخاص آخرين وفق معاهد سلام منصفة»..

•• ولعنا نتذكر أيضاً إجابة الأمير على سؤال آخر لصحيفة (واشنطن بوست) عن رأيه في قرار الرئيس الأمريكي ترمب حول اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.. عندما قال بأنه «مؤلم»..

•• وبكل تأكيد.. فإن سموه قد بحث مع كبار المسؤولين الأمريكيين بدءا بالرئيس.. ونائبه.. ونائب وزير خارجيته وزير الدفاع الأمريكي.. كل هذه الأمور بتوسع.. وقدم الصورة الحقيقية للموقف العربي الجاد لإنجاز عملية سلام تضع حداً لحالة عدم الاستقرار الدائمة في المنطقة.. وهي الحالة التي تستغلها دولة مثل إيران التي أصبحت بمثابة أداة للضغط على دول المنطقة وتعريض سلامتها واستقرارها.. واقتصادها للابتزاز.. والضغط وتحقيق المزيد من المكاسب على حساب دولنا وشعوبنا.

•• يكشف هذا سؤال مجلة اتلانتك التالي لسمو الأمير:

•• هل تعتقد أن الخطر الإيراني يجعلكم قريبين من إسرائيل وأنه بدون هذا الخطر هل يمكنك أن تتصور حالة تمتلكون فيها مصالح أخرى مشتركة مع إسرائيل؟

•• لتأتي إجابة سموه على النحو التالي: «تشكل إسرائيل اقتصاداً كبيراً مقارنة بحجمها، كما أن اقتصادها متنام، ولعل هناك الكثير من المصالح الاقتصادية المحتملة التي قد نتشاركها مع إسرائيل متى كان هناك سلام منصف، فحينها سيكون هناك الكثير من المصالح بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ودول كمصر والأردن».

•• وللمرة الثالثة يؤكد الأمير أن أي تطبيع مع إسرائيل مرهون بمعاهدة سلام تضمن حقوقنا كعرب وكشعب فلسطيني.. وأن التوصل إلى هذه المعاهدة كفيل بتكامل مصالح كافة دول المنطقة وبالذات بعد زوال أسباب حالة عدم الاستقرار.. والقضاء على كل عوامل الشر التي تستنزف قدرات الجميع.. وتخلق حالة من التوتر الدائم والصراعات الدائمة.

- أبعاد الزيارة الثقافية.. والاقتصادية.. والأمنية

•• لكل ذلك أقول: إن زيارة الأمير محمد بن سلمان لأمريكا قد أغنت الجانب السياسي وشخصت مشكلات المنطقة بدقة.. وأعطت الكثير من الإشارات المشجعة لما سيحدث بعد اليوم.. سواء في سورية أو اليمن أو على مستوى عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. وذلك في الاتجاه الذي يعزز الجهود البناءة لتغليب الحلول السياسية وإيقاف آلة الحروب والكوارث والأزمات.. وهي حلول وخيارات وإن كانت مُرة إلا أنها ستكون أقل سوءا من استمرار الأوضاع الراهنة بكل ما توفره من عوامل التكسب والابتزاز لقوى الشر من أي جهة كانت على حساب دماء الشعوب.. وأمن المنطقة.. وسلامتها.. والتفرغ بعد ذلك لمرحلة البناء والتنمية والالتفات للشعوب بدلاً من إهدار دولة كإيران لأموال الشعب على المؤامرات.. وإيجاد الميليشيات.. وخلق المزيد من بؤر التوتر في مختلف أرجاء المنطقة وسواها..

- وعلى مستوى التحولات الكبرى

•• فإن زيارة الأمير الشاب لأمريكا واعدة بالكثير من الإنجازات الكبرى إن على مستوى تعزيز القدرات العسكرية وكفاءة الردع.. وإن على مستوى الاستثمارات الواسعة والضخمة سواء في الولايات المتحدة أو داخل المملكة.. بما تم الاتفاق عليه من تعاقدات، وبناء شراكات واسعة في مجالات حيوية وبالغة الأهمية مثل مشاريع الطاقة الشمسية واستخداماتها المتعددة في المملكة.. وكذلك المشاريع التقنية والتوسع في التكنولوجيا المتقدمة أو في مجال الفضاء.. أو في المجالات الثقافية كافة.

•• كل ذلك .. أنجزه الأمير .. وأكد معه أن الدولة ماضية وبقوة في تحقيق رؤية 2030.. وأن ما تم في واشنطن وسياتل ونيويورك وبوسطن ولوس أنجليس وسان فرانسيسكو وهيوستن.. قد عكس ثلاثة أمور في غاية الأهمية وهي:

- مرحلة بالغة التكلفة .. ولكنها ضرورية

أولاً: أن الإعداد لهذه الزيارة كان رفيع المستوى وأن إدارة محمد بن سلمان قد درست بتوسع وإتقان واستيعاب الكثير من المشاريع والاستثمارات وصنع المواقف.. وتوخي أفضل النتائج والانعكاسات على المملكة.. وكذلك على الإقليم بشكل عام.. وكما قلت في السابق .. فإنه لم يمر عليّ أن رأيت زيارة تعج بكل ما تحقق فيها من لقاءات.. سياسية ومالية وعسكرية واقتصادية وثقافية ونقاشات وتبادل مصالح.. مع مختلف الأطراف الأساسية والمهمة بهذا القدر الوفير والمثير للاهتمام.. والمحقق للأهداف المرسومة بعناية. وذلك كله يؤكد حُسن الإعداد لهذه الزيارة.. وما قد يترتب عليها من متابعات مضنية بعد ذلك.. وتلك في حد ذاتها مهمة شاقة.. ودقيقة.. وحساسة.

ثانياً: إن تأهيل المملكة لمرحلة ما بعد التغيير الشامل قد بدأ بالفعل.. وذلك بانتقالنا من عملية التخطيط إلى مرحلة التنفيذ.. سواء على مستوى الداخل أو مع الخارج .. وإن عملية

التغيير تبدأ بتغيير المفاهيم ورفع معدل الإحساس بالمسؤولية لدى الفرد السعودي.. وتنتهي بتأهيله وتدريبه على التعامل مع منتجات العصر ومتطلباته بأعلى مستويات القدرة والكفاءة وبالتفكير خارج المألوف وبالقفز المحسوب اختصاراً للزمن والمسافة وتحقيقاً لأرفع الإنجازات في المدى القصير.. بعيداً عن الوعود.

ثالثاً : الانتقال بالتفكير من حالة الترقب والانتظار إلى حالة الاقتحام للمشكلات والصعوبات والمواجهة لها بالشجاعة الكافية وبالتفتح الذهني المطلوب، وإن كلفنا ذلك الكثير في البداية، إلا أنه يوفر علينا الكثير من الوقت، ويجنبنا التعرض للمجهول.. بكل ما قد ينطوي عليه من مخاطر تتهدد سلامتنا.. وتضعف فرصنا في الوصول ببلادنا إلى منطقة الأمان.. والنماء.. والتقدم.. قبل فوات الأوان.

•• وباختصار شديد.. وشديد للغاية.. فإن المستقبل أمامنا أصبح واضح المعالم.. وإنه بالقدر الذي نتحرك فيه بسرعة وبإتقان وفي الاتجاه الصحيح وبحسابات مدروسة.. بالقدر الذي نستطيع فيه أن نكون أكثر اطمئنانا في بلادنا.. وعلى بلادنا بتعاون وتضافر جهود الجميع.. وبالعمل والإنتاج وبالمزيد من الدهاء السياسي المطلوب في التعامل مع الدول والشعوب الأخرى.. المتقدم منها.. والناشئة على حد سواء، فنحن بلد يمتلك الكثير. وعلينا أن نستثمر كل ذلك بالشكل المناسب، وفي المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، بناء على قاعدة «مصالحنا أولا.. وأخيرا».

•• ومن طبيعة التحولات الكبيرة في الدول والمجتمعات أن تكون هناك أرباح وخسائر، وأن يكون لك حلفاء.. أو شركاء.. أو أصدقاء.. يفهمونك.. وتفهمهم، وتتبادل معهم المصالح، بعد أن تنجح في ردم «الفجوة» بينك وبينهم. أو تصحيح المفاهيم الخاطئة عنك عند شعوبهم.. وهو ما نجحت في تحقيقه حتى الآن زيارة الأمير محمد لكل من بريطانيا، وأمريكا، وهو ما ننتظر أن تكون له انعكاساته الإيجابية على الموقف النهائي من إيران (أولا) ومن التعامل معنا بصورة مختلفة وأكثر موثوقية وباعتماد متبادل في المرحلة القادمة أيضا.

- البدائل الضرورية عن إلغاء الاتفاق النووي

•• وفي مسألة إيران.. فنحن لا نطالب الدول الـ(5+1) بإلغاء الاتفاق النووي الموقع معها.. ولكننا ننتظر منهم مراجعة هذا الاتفاق وتعديل بعض بنوده، في ضوء تجربة السنتين الأخيرتين مع طهران ورصد تجاوزاتها وممارساتها المخلة به، وفرض عقوبات رادعة لها.

•• كما ننتظر منها أن توقف تدخلاتها في شؤون دول المنطقة الداخلية وتمردها على حساب الجميع وتهديد الأمن والاستقرار في كل مكان ذهبت إليه، أو تخطط للوصول إليه، كما فعلت وتفعل في لبنان، وسورية، والعراق، واليمن، وليبيا.. وغيرها.

•• وليس بعيدا أن يتم شيء من ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية حين يعلن الرئيس (ترمب) موقف بلاده المنتظر من هذا الاتفاق في 12 مايو 2018 الموافق 26 شعبان 1439هـ، وننتظر تحركا مماثلا وقويا من الدول الخمس الأخرى، وبالذات من بريطانيا التي زارها الأمير مؤخرا، وفرنسا التي يبدأ زيارتها الآن وضمن هذه الجولة.

- أوجه الاتفاق.. أو الاختلاف مع باريس

•• وتعتبر زيارة الأمير محمد بن سلمان لباريس الأولى بعد أن أصبح وليا للعهد، وكذلك بعد عام من تسلم الرئيس «ماكرون» لسلطاته الرئاسية ودخوله «الإليزيه»، وهي فترة قصيرة بكل المقاييس على رئيس دولة ورث العديد من الملفات المعقدة، وفي مقدمتها ملف الإرهاب الذي اجتاح المدن الفرنسية الرئيسية، وتجاوزها إلى مختلف دول العالم وإن رزئت به منطقتنا بصورة أشد خطورة.

•• كما ورث فخامته ملفا نوويا معقدا جرت المشاركة الفرنسية في التوقيع عليه مع إيران.

•• بالإضافة إلى ملف خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة في وقت دقيق وحساس.

•• وكذلك ملف تراجع دور فرنسا في المنطقة العربية، وبعض دول أفريقيا.

•• وخلال العام الماضي، بدا للمراقب، وكأن فرنسا بصدد مراجعة جادة لكل هذه الملفات وغيرها، مع التركيز الشديد على الملفين الأمني والاقتصادي، سواء في داخل فرنسا أو مع بقية الشركاء والأصدقاء في خارجها.

* وكنا -نحن هنا في المملكة العربية السعودية- نراقب الجهود الفرنسية الحثيثة المبذولة لبلورة مواقف فرنسية محددة وواضحة من تلك القضايا.. وفي مقدمتها قضية محاربة الإرهاب المتصاعد.. والموقف من الوضع في كل من سورية، واليمن، وليبيا.. وكذلك التعاطي مع الأطراف المتداخلة في هذه القضايا مثل إيران، وتركيا، وروسيا.

•• وفي هذا الوقت بالذات، تجيء زيارة الأمير لفرنسا، بعد إعداد لا يقل جودة عن الإعداد للزيارتين السابقتين لكل من بريطانيا وأمريكا.. وذلك بهدف تنسيق المواقف، بصورة أقوى وأكثر عمقا، وعلى جميع المستويات: المستوى الثنائي تعزيزاً للعلاقة القائمة بين البلدين، وكذلك على مستوى التخطيط المشترك للوصول إلى توافقات بعيدة المدى حول مجمل القضايا الآنية المطروحة.. وفي مقدمتها دعم التحالفات المناهضة للإرهاب في المنطقة والعالم، وتحقيق مبدأ العدالة لدفع عملية السلام في المنطقة بقوة بين الأشقاء الفلسطينيين، والإسرائيليين، لضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، في إطار حل الدولتين، وإيقاف التدخلات الإيرانية في دول المنطقة، وخروج جميع الأطراف الموجودة في سورية، وإيقاف التجاوزات على حقوق الشعوب في الدول كافة، وتغليب الحلول السياسية ودعم الجهود الرامية إلى تحقيق السلام والأمن في كل من سورية واليمن بصورة أكثر تحديدا بالتعاون مع الأمم المتحدة.

- نقاط اتفاق عديدة مع باريس

•• ومن الواضح أن باريس باتت جاهزة أكثر من أي وقت مضى للالتقاء معنا حول الخطوط العريضة لسياسات ثابتة ومستقرة تجاه جميع القضايا التي تواجه البلدين وتشغلهما أكثر من غيرها، وذلك بعد أن احتاجت الإدارة الفرنسية إلى وقت كاف لدراسة تلك الملفات الشائكة، وتبادلت الرأي مع الرياض بأكثر من صورة، وبالذات من خلال لقاءات وزيري خارجية البلدين المتكررة في باريس والرياض وفي غيرهما.

•• وما يشجع على القول بأن البلدين متجهان -خلال هذه الزيارة الهامة- إلى إرساء قواعد مهمة وراسخة لعلاقات مثالية وعلى كل الأصعدة، العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والتعليمية، والثقافية، وكذلك على صعيد العمل السياسي المشترك وتوحيد المواقف بمواجهة القضايا الملحة، ومهددات الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم وبالذات في ضوء الاتصالات الفرنسية الأخيرة بكل من إيران، وتركيا، وروسيا، وكذلك في ضوء مواقفها الداعمة للمملكة في استهداف أمنها بصواريخ إيرانية بعيدة المدى على يد الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران، هو أن القواسم العظمى المشتركة أكثر من نقاط الاختلاف بيننا وبينهم.

•• وبكل تأكيد فإن هذه الزيارة سوف تشهد التوقيع على عدة اتفاقيات وإقامة شراكات واسعة بين البلدين.

•• وكان مجلس الوزراء يوم الثلاثاء الماضي 17/‏‏7/‏‏1439هـ (3 أبريل 2018م) قد فوض الأمير محمد بن سلمان للتباحث مع الجانب الفرنسي في شأن مشروع اتفاق بين الحكومتين حول التنمية الثقافية والتراثية والطبيعية والسياحية والبشرية والاقتصادية لمحافظة العلا.. والتوقيع عليه، وهو أحد المشاريع الواعدة الكبرى التي أعلن عنها أخيرا ضمن رؤية 2030. وجاء الوقت لتنفيذها على صعيد الواقع وبعد اتصالات ودراسات موسعة مع الجانب الفرنسي.

•• كما فوض المجلس وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية رئيس مجلس إدارة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية للتباحث مع الجانب الفرنسي في شأن مشروع مذكرة تفاهم للتعاون في القطاع الصحي البحثي بين مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية في المملكة ومعهد الأمراض الجينية في فرنسا، والتوقيع عليه.

•• أما المشروع الثالث الذي وافق المجلس عليه بين البلدين، وسوف يجري التوقيع على مذكرة تفاهم بشأنه -خلال هذه الزيارة- بين وزير البيئة والمياه والزراعة وبين الجانب الفرنسي فإنه يتعلق بإدارة المياه.

- صفات وخصائص مشتركة بين الأمير وماكرون

•• وهناك اتفاقات أخرى على درجة كبيرة من الأهمية سيعلن عن بعضها خلال هذه الزيارة، كما أن هناك مشاريع استثمارية عريضة سيتم تدارسها وتطارحها مع مختلف الأوساط والشركات الفرنسية الكبرى أثناء الزيارة.

•• كل هذا وغيره سيتم تناوله خلال أيام الزيارة الثلاثة، وإن كان الأهم من كل هذا هو أن الأمير محمد، والرئيس ماكرون، يملكان نفس الطموحات، ونفس الأحلام، ونفس الإرادة لصناعة مستقبل أفضل لبلديهما وشعبيهما، فهما يتفقان في الكثير من الخصائص والصفات، وفي مقدمتها العمر المبكر، والعزيمة والإصرار الهائلان، والرؤية بعيدة المدى، وإن كان اللقاء الأول بينهما في الرياض في 9/‏‏11/‏‏2017، رغم أنه كان سريعا وخاطفا، وتم في ظروف استثنائية، قد وضع بذرة هذه «الكيمياء» الحسية.

•• وجاء اليوم الذي تنطلق فيه علاقات البلدين إلى آفاق أرحب، بعقلية القيادة المتفتحة، والمستوعبة لمختلف قضايا العصر، والقادرة على التعامل معه بصورة خلاقة، وبعزيمة مصرة على تجاوز كل العقبات.

•• وكما أن لدى فرنسا الكثير مما يمكن أن تقدمه للمملكة، سواء في المجالات التعليمية، والثقافية، والصحية، أو في مجالات الطاقة المتجددة، وتطوير القدرات النووية، وتعزيز القوة العسكرية السعودية الرادعة، بحرا، وجوا، وبرا، فإن لدى المملكة العربية السعودية من القدرات النفطية والمعدنية والبتروكيماوية، ما يعزز القدرة الفرنسية على النماء، جنبا إلى جنب المشاريع والاستثمارات الضخمة والواعدة في إطار رؤية 2030، وما سوف يتولد عنها في المستقبل القريب.

•• كل ذلك يؤكد أن الرياض وباريس باتتا جاهزتين الآن لإطلاق تحالف قوي، ستظهر نتائجه خلال أشهر قليلة.. وقليلة فقط.