-A +A
يحيى الامير
في حواره مع مجلة أتلانتك تحدث سمو ولي العهد عن الوهابية قائلا: «لا أحد يمكنه تعريف الوهابية، ونحن لا نعرف شيئا عنه».

والحقيقة أن انتشار مصطلح الوهابية وما شهده من نقاشات وتحليلات كلها حدثت خارج المجال المعرفي والإعلامي والبحثي السعودي، بمعنى أن هذا التوصيف ليس سعوديا على الإطلاق، وبالتالي فهو منتج خارجي وصفي لم يحدث في الغالب أن جاء حياديا، بل يأتي في سياق الاتهام والمحاولات الطويلة لربط المملكة بالإرهاب والتشدد.


التعريف المتداول في مختلف الكتابات عن الوهابية ينطلق من كونها الحركة الدينية التي أطلقها الإمام محمد بن عبدالوهاب والتي حظيت بدعم ومساندة الإمام محمد بن سعود رحمهما الله، والوصف الرائج لتلك الدعوة أنها كانت متشددة وملتزمة بالتعاليم الدينية الأكثر تزمتا وتقوم على معاداة كل من سواها.

هذا في الغالب هو أكثر ما يدور عن (الوهابية) ولكن سأنقل هنا كلاما طويلا للمفكر العربي محمد عابد الجابري عن الوهابية، يقول:

«فإذا نظرنا إلى مضمون (الدعوة الوهابية) وجدناه مضمونا دينيا خالصا: محاربة (البدع) التي تنحرف بعقيدة التوحيد الإسلامية فتنسب إلى غير الله ما لا يجوز أن ينسب له من أمور تحمل سمات الشرك بالله، وذلك مثل الحلف بغير الله والتوسل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بغير ما هو مقرر شرعا من الطاعة والدعاء.. إلخ، وزيارة القبور والأضرحة للتبرك والتوسل بمن دفن فيها، والاعتقاد في التعاويذ والتعازيم ومخاطبة الجن في معالجة المصروع.. إلخ.

وهذا (الفهم السلفي) للعقيدة، المبني على (التوحيد) قد جعل الدعوة الوهابية في مواجهة مباشرة مع الطرقية (الصوفية) التي كانت واحدة من القوى الاجتماعية في المجتمع الإسلامي زمن الإمبراطورية العثمانية. ذلك ما أعطى للحركة الوهابية بعدا قوميا ــ دينيا: كان خصمها (الخارجي) هو الإمبراطورية العثمانية».

هذا واحد من أبرز الجوانب التي لم تحظ بنقاش علمي واسع كما يجب، لم تكن دعوة الشيخ دعوة سياسية على الإطلاق، لكنها شهدت مواجهة سياسية من قبل الإمبراطورية العثمانية، تلك المواجهة أفرزت بعدين: بعدا سياسيا وآخر قوميا تأججت معه أشكال العداوة وبات ينظر للدعوة بصفتها تهديدا سياسيا للكيان الإمبراطوري آنذاك.

مثلت الوهابية حركة دينية تتقاطع مع الحركات الدينية التي عرفها العالم العربي والإسلامي، واللافت أنها كانت في معظمها دينية ظرفية مرحلية لم يتحول أي منها إلى كيان سياسي وإلا لدخلت في مواجهات واسعة مع كل المختلفين عنها (الحركة الدينية الوحيدة التي تحولت إلى كيان سياسي هي الخمينية ولذلك واقعها اليوم بهذا المستوى من التأزم)، فالحركة الإحيائية الوهابية كما يصفها الجابري لم تكن ذات مشروع سياسي بل كانت مشروعا دعويا شعائريا، هذه المشاريع الدعوية لا يمكن أن تستمر وفق نسختها الأولى خاصة مع تمكن وازدهار الدولة الوطنية التي تتحول في ظلها تلك الدعوات إلى مجرد تاريخ ومرحلة لا إلى كيان مواز للدولة. والدعوات التي أرادت أن تظل كيانا موازيا هي تلك التي اتجهت للعمل السياسي المنظم الحركي كما حدث مع تجربة الإخوان المسلمين التي استمرت لأنها لم تلتزم بكونها مجرد حركة دينية إصلاحية بل كيانا سياسيا.

مثلا لم تكن الوهابية توسعية ولا حركة سرية ولا حزبا سياسيا ولم تحمل في داخلها أي خطاب سياسي، وهو ما أخرجها من كونها أزمة أو عقبة في وجه الدولة الوطنية لتصبح تاريخا إحيائيا دعويا.

كل هذا لا يعفينا من مواجهة بعض الجوانب التي استغلها البعض في تأطير صورة الوهابية، ويمكن القول إن الأزمة الفكرية التي شهدتها الوهابية لا تختلف عن تلك التي شهدتها الحنبلية؛ وبما كان المنتج المعرفي للحنبلية مناسبا لظروفه وسياقاته التاريخية لكن الأزمة حدثت في العصور التالية لذلك العصر ولدى القوى الدينية التي أرادت تحويل ذلك المنتج الظرفي إلى منتج مستمر ومهيمن على الظروف والأزمنة التالية له، هذا في الغالب ما يحدث مع تراث دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب حيث لم تعمل دوائر الدرس الفقهي على البناء على ذلك الإرث والانطلاق منه نقدا أو تجديدا وإنما توقفت عنده.

اليوم وفي ظل الحقبة السعودية الجديدة تواصل الدولة الوطنية المدنية ازدهارها ويواصل التنوع ازدهاره ولا يوجد في تاريخنا ما نتبرأ منه، بل ما نحن بحاجة علمية ومعرفية لاستمرار قراءته ونقده.