-A +A
نجيب يماني
أب باكٍ للقاضي: احبسوا ابنتي مدى الحياة.. سأقتلها. عنوان صادم («عكاظ» 18818) يقطع نياط القلب ويدمي عروقه بعد أن رفض الأب استلام ابنته التي قضت عقوبتها سجناً وجلداً في قضية أخلاقية، داعياً القاضي إلى الإبقاء عليها سجينة، رافضاً كل الوساطات لتسلم ابنته مهدداً بقتلها إن هي عادت إلى البيت، طبعاً لا أحد يعرف ملابسات هذه القضية وكيف تم تقييمها خاصة في فترة الصحوة، وما هي المقاييس والضوابط التي أحاطت بها، ومع ذلك فلو أرجعنا خلافنا في هذه المسألة إلى شرع الله وهدي نبيه الكريم وبحثنا عن علة الحكم حتى يتسنى لنا حمل الحكم إلى عصرنا الحاضر، والعلة كما عرفها الفقهاء هي (وصف ظاهر منضبط) يحمل الحكم عليه من الأصل الذي جاءت فيه النصوص إلى الفرع الذي نحن فيه، وهو إمكانية الستر على هذه الفتاة وغيرها، والأصل في هذه المسألة قوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش)، روى البخاري، أن عتبة بن أبي وقاص أوصى أخاه سعد بن أبي وقاص بأن يأخذ ابنا له من جارية كانت لزمعة، كان عتبة قد افترشها في الجاهلية بالسفاح، فلما كان عام الفتح أخذ سعد الغلام، كما أوصاه أخوه، ثم اختصم سعد وعبد بن زمعة، الأخ الأكبر للغلام، إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال سعد: هذا ابن أخي أوصاني بأخذه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي ولد على فراش أبي. فقضى الرسول بينهما بمقولته الشهيرة: «الولد للفراش» ومعناها أن نسب هذا الغلام يلحق بصاحب الفراش، أي عقد النكاح أو ملك اليمين. فقضى بالغلام لزمعة في النسب، وهو سيد الجارية، ووالد زوجته سودة أم المؤمنين. وهذا مع علمه أن الغلام لعتبة حقيقة. يؤكد ذلك قوله: «واحتجبي عنه يا سودة» ومعناه أن هذا الغلام ليس بأخ لسودة حقيقة، وإن كان قد قضى بأنه أخوها حكماً، بإلحاق نسبه إلى أبيها زمعة. ولا يخفى ما وراء هذا الحكم من الستر والصون للأعراض ومنعاً للقيل والقال وشيوع الفاحشة في المؤمنين، وهو مقصد من أكبر مقاصد الشريعة في حفظ النسب والأعراف والصون والعفاف وإسباغ الستر على من زلت قدمه للخطيئة. يقول ابن تيمية (والفجور أمر باطن لا يعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال عليه الصلاة والسلام: وللعاهر الحجر، أي عليه أن يسكت عن إظهار الفجور، فإن الله سبحانه وتعالى يبغض ذلك). فالمرأة أيا كانت بكراً أو ثيباً، حائلاً أو حاملاً، ذات زوج أو غير ذات زوج لو زلت قدمها وانزلقت إلى الخطيئة فإنه يتوجب عليها وعلى من حولها في المجتمع الأخذ بكل أسباب الستر والصون وعدم شيوع الفاحشة. حتى لو زنى رجل بامرأة وحملت من هذا الزنى وهذه مصيبة أكبر من مجرد قضية أخلاقية (وما أكثرها في فترة الغفلة)، ثم عقد قرانه عليها بعد وقوع الخطيئة وبعد ثبوت الحمل من هذا الزنى، وهو ما يتوجب على الواطئ فعله، فإن العقد صحيح والولد ولده، حقيقة وحكماً من غير ادعاء ولا استلحاق، إن جاءت بالولد لأدنى مدة الحمل، وهي 6 أشهر من عقد النكاح.

وقد زنى رجل في عهد أبي بكر بامرأة، فزوجهما أبو بكر. ووقع مثله في عهد عمر، وحرص عمر على تزويجهما وسُئل ابن عباس عمن زنى بامرأة ثم تزوجها، فقال: (يجوز. أرأيت لو سرق من كرم أي عنب ثم ابتاعه أكان يجوز؟). وعن أبي حنيفة قوله: (لا أرى بأساً إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها مع حملها ويستر عليها والولد ولده). كما أن عقد النكاح على المرأة المزني بها سواء كانت حائلاً أو حاملاً من هذا الزنى، وسواء كان العاقد عليها هو الواطئ أو غيره، فإن هذا العقد صحيح عند الأئمة الأربعة، لقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}، وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} والمرأة التي وقعت في الزنى، أكانت حائلاً أو حاملاً من هذا الزنى، فإنها تدخل في عمومات الآيتين، كما بينه الفقهاء.


وقد أتى جماعة إلى سيدنا عمر وأخبروه أن لهم ابنة كان لها ماض، أرادت أن تذبح نفسها لأنه أصابها حد من حدود الله فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت ثم تابت توبة حسنة وهي الآن تخطب إلى قوم، أفنخبرهم بالذي كان؟ فقال عمر أتعمدوا إلى ما ستره الله فتبدوه، والله لئن أخبرتم أحداً بشأنها لأجعلكم نكالاً لأهل الأمصار، أنكحوها نكاح العفيفة المسلمة. كان الله في عون الأب الذي لم يتحمل جريمة ابنته وكان الله في عون الابنة التي لم يسبل عليها أحد ستر الله. الستر منزلة لا يقوى عليها إلا من عرف فضلها وأدرك معانيها فهو من شيم المؤمنين، وقد حذرنا نبي الأمة من عاقبة أقوام تربصوا بأخطاء غيرهم فقال لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم لأنه من تتبع عورة أحد تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف رحله، ما أعظمك يا رسول الله وأنت تعلمنا فضيلة الستر فتقول لمن فضح ماعز (لو سترته بثوبك).

* كاتب سعودي