-A +A
أسماء بوزيان
للشعر ربيع في العالم، بدأ في أرجاء أوروبا في نهاية الأسبوع الثاني من شهر مارس. اجتمع حوله الرواد، فمن جنيف ومرورا بباريس إلى بروكسل وبعض العواصم العربية. أشعل رواد الشعر شموعا للاحتفاء به، وألبسوه زهر الكلمات ورفعوه مقامات الإنسانية.

جميل أن يجمع الشعر كل أطياف المجتمع، فيحتفل به الشعراء ويحتفل به غير الشعراء. بل الأجمل أن تحتفل به المنظمات الدولية وتقيم له الأمسيات وترفع في نهايتها لافتات السلام والتعايش. في سويسرا احتُفل بالشعر في قلب جامعة لوزان وانتشر الاحتفال في جميع أنحاء المناطق الناطقة بالفرنسية بنفس البلد، ليمتد إلى خارج سويسرا وبالضبط إلى قلب العالم باريس التي نطقت شعرا، فكانت اليونسكو على موعد مع يوم للشعر، نظمه الاتحاد العالمي للشعراء وبرعاية المندوبية السعودية باليونسكو.


وتحت نبض الشعر، وإن غاب الشعر والشعراء في بعض القراءات، فقد حضر بعضهم ليرتلوا شعرا بكل اللغات. وهكذا احتفلت منصات العالم بالشعر.

لا أزعم أنني أفهم حد البراعة في فنون الشعر، ولا أزعم أنني اتقن تقنياته وفنياته، ولكن على الأقل أزعم أن مسمعي لا يقبل من الشعر إلا أحسنه. وحتى وإن كان تثقيف اللسان على هذا النمط جاوز مدلوله اللغوي وصار يضيق بذلك «اللحن» المسترسل في بعض النصوص الشعرية التي أصبح يصفق لأصاحبها الذين يستضافون على المنصات وفي التكريمات الدولية.

فإذا سلمنا أن في كثير من الأحيان، يصير الارتباط وثيقا بين جوهر الشعر وأصوله التي نبت منها، فلماذا يوكل الشعر لغير أهله؟ وما هو معيار جودة النص الشعري؟

أعتقد أن أحب شيء للشعراء هو ذاك الذي يجتمع فيه المبهم اللا محدد بالمحدد الواضح. والشعر يجمع الغموض والوضوح دون ابتذال ودون إسراف.

وهو ما لا يعيه أولئك الذين يتطفلون على منصات الشعر. فيحولون الشعر إلى شرح ما لا يشرح وتبسيط ما لا يبسط، ناهيك عن «اللحن» في اللغة حد التخمة.

سمعت حوارا مهما في معرض باريس للكتاب بين شعراء في جناح الشارقة حيث كانت تنظم أمسيات شعرية، كان فيها من الجودة ما شنف الآذان وفيها من الغث ما نفر المسامع. وقد كان الحوار حول قيمة الصورة الشعرية في القصيدة، وكيف تصنع القدرة على الإشعاع الشعري ضمن الحدود التي تنأى بها عن الوقوع في الابتذال والإمعان في الوضوح الذي يؤول للتبسيط.

أعتقد فقط من باب الاطلاع أن الغموض في الشعر ليس عيبا. لا بل هو ضرورة فنية أساسية ولكن عندما يتحول الغموض إلى عتمة مكثفة تلغي حيز التفاعل بين النص والواقع والشاعر والمتلقي، فهنا يتحول الشعر إلى أي كلام....

أي نص أدبي يحاول تشتيت المعنى لا يمكن أن يرتقي إلى الوضوح، ونفس الأمر ينبطق على النصوص الشعرية. فالتضليل والتخبط والكسر في مقام النصب بدعوى الشعرية لا يمكن إلا أن نَسِمَهُ بالخواء الذي يستجدي الغموض لذاته ولا يتصل بأي معنى من معاني الشعرية، وموضعه بالتأكيد خارج دائرة الشعر على رأي نقاد الفن الشعري. وإذا أفتح هنا قوسين لأن أقول إنه بقدر ما يوجد هذا الخواء في عالمنا العربي، فهو أيضا موجود في المهجر وبشكل كبير لعدة اعتبارات، منها غياب النقد الموزون وغياب التمحيص في ما ينشر أو ما يقال باللغة العربية.

ورغم ذلك هناك موجة جديدة من الشعراء لا يلتزمون ولا يعترفون بالقافية ولا بالوزن إلا أنهم استطاعوا بقليل من «الحيلة» الالتفاف على الوضوح الساذج برسم معالم جديدة لشعر تجاوزوا من خلاله الوضوح المبتذل الذي يسلب الشعر شعريته وفنياته، وتجنبوا بذلك الوضوح العقيم الذي غالبا ما يجعل الشعر أي شيء إلا أن يكون شعرا.

وعلى ذكر نقطة التحول والإبداع هذه في النص الشعري، فإننا ندرك أن الالتفاف الذي وقع لم يكن فقط في الشعر العربي، بل أيضا في باقي اللغات كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية، الذي يوظف الإيحاءات كسمة أساسية تسمو به عن الوضوح المبتذل الذي غالبا ما ينتهجه بعض دعاة المنهج الجديد في الشعر النثري، الذي تحول إلى يسر لامتهان صفة شاعر أو شاعرة. وحجة هؤلاء أنهم يعيبون الغموض في الشعر، ويبحثون عن الوصول إلى المتلقي بانتهاج الوضوح أو التبسيط على قول بعضهم.

الشعر بشكل عام هو الذي يستشرف أفق اللغة وليس العكس ويحترمها، ويفتح الفضاء أمام رؤية تفسح مداها على عوالم غير محدودة من الدلالات الإيحائية لقراءات متعددة تقرب المتلقي من النص وتمكنه من التماهي فيه.

ولا أعتقد أن الشاعر الذي يرسم صورة شعرية تتوشح بغلالة شفيفة من الغموض المشع قد يخل بالجانب الإيحائي من النص الشعري، فهو بذلك ينتعل الغموض من أجل خاصية في طبيعة التفكير الشعري، وليس سمة خاصة بطبيعة التعبير الشعري على حد قول هربرت ريد. ولا ضير إن تجاوزنا فكرة التيسير لنمنح للقارئ متعة الاكتشاف. فالصورة حينما تمنح للقارئ بأسلوب ميسر ومبتذل بالتأكيد ستحرمه من متعة اكتشاف بعض أسرار الصور الشعرية. وهو الأمر الذي لمسته في بعض الأمسيات الشعرية التي احتفت بربيع الشعر... ففي ربيع الشعر انتعل الشعر نعلا بغير مقاسه.

* إعلامية عربية مقيمة في باريس